اليوم.. لم يكن عادياً على الإطلاق.. رغم زرقة السماء.. وسطوع الشمس.. وتفتح أزهار الربيع.. إلا أنه بالنسبة لي لم يكن عادياً على الإطلاق.. فاليوم قررت وبعد تفكير طويل أن أتوقف عن إضافة قطعةً من السكر لكوب قهوتي.. ربما لأنني كبرت.. أو ربما لأنني نضجت وأصبحت جاهزة لتذوق مرارة الحياة..
فأنا وبعد كل هذه العقبات لا زلت أتنفس.. وفي جسدي قلب ينبض.. رغم أنني ترددت كثيراً قبل أن آخذ هذا القرار.. ترددت أكثر من ذلك اليوم الذي أخبرتني فيه عن فكرة السفر المجنونة.. عندما أضحى حديث السفر يلهج صباح مساء... و يطغى على كلام الحب وشعر الغزل.. ويعلو على أصوات المدافع والقذائف.. لم أتردد أبداً عن الموافقة عندما قلت لي :
_ هذه الرحلة ستكون شهر عسلنا الذي طالما حلمنا به.. ووعدتك ووعدت نفسي بأن أصطحبك في رحلة تنسينا كل الألم والمصاعب التي حالت بيننا وأعاقت زواجنا..
_ شهر عسل!!..
_ نعم شهر عسل ..
يا لسعادتي.... فكم قرأت في الروايات الرومانسية عن هذا الشهر.. الذي يسافر فيها العشاق ويجبون العالم..
يركبون البحر... ويعانقون السماء... ويتسامرون في الحدائق والغابات... آه كم حلمت برحلة كهذه.. رحلة أحلّق فيها معك كعصفورين صغيرين يطيران معاً ويحطان على كل غصن يانع.. ويزقزقان تحت ظل الأشجار.. يرتشفان حبات الندى.. ويبنون عشاً صغيراً مليء بالحب ..
حزمت بعض الذكريات القليلة في عشنا الصغير استعداداً لرحلة العمر... ولم أنسى صندوقي الموسيقي الصغير.. الذي أهديتني إياه في أول لقاء لنا..
لم أنظر خلفي... ولم أودّع ذكرياتي وطفولتي كما يجب... فسحر كلامك وجمال وصفك يشدني... فمن ذا الذي يلقى بالاً لهذه التفاصيل الصغيرة وهو مقبلٌ على جنان النعيم.. وإلى سعادة لا تفنى...
بضع كلمات هنا.. وبعض النظرات هناك.. وقبلة على وجنتي أمي الدامعة... لا أعرف لماذا تبكي.... لماذا تبكي كل الأمهات ؟؟.. فأمي تبكي دوماً... عند تخرُّجي من الجامعة.. وفي ليلة زفافي.. وفي كل منعطف هامٍ في حياتي تبكي.. على الأرجح هذه دموع الفرح.. أو هكذا كنت أحسب.. أو أريد أن أقنع نفسي بذلك ..
لا أعلم ماذا يحل بي عندما أستحضر تلك اللحظات و ذاك الوداع.. أجد نفسي ودموعي تختلط بكوب قهوتي.. فأهرع إلى علبة السكر لأعدِّل طعم الكوب المالح...
_ لا..
لقد اتخذت قراري.. لا سُكَّر بعد اليوم.. هذه هي الحياة.. يجب علي تقبُّلها كما هي.. لا .. لن أضعف..
لماذا كل هذا التخبُّط و التردد الآن .. لقد مرَّ بي ما هو أسوأ من ذلك..
فهذا الموقف لن يكون أكثر صعوبة من لحظة وضع قدمي على ذلك القارب المطاطي الصغير .. الذي يعجُّ بالوجوه الخائفة.. والأجساد الطريّة.. والأرواح البريئة.. والذي لم يكن كما وعدتني.. لكنك شرحت لي آنذاك عن الباخرة الضخمة الراسية في عرض البحر.. وعلينا الذهاب إليها بهذا القارب..
لم أكن خائفةً آنذاك مثلهم.. فأنا معك.. أتشبّث بذراعك.. أضع رأسي بين قدمي كلما ارتفعت أصوات الأطفال وعلا صراخهم.. أدندن في نفسي أنغام صندوقي الخشبي الصغير.. وأستحضر السعادة التي تنتظرنا.. أتخيّل تلك الباخرة الفخمة.. وأنا وأنت نقف على سطحها.. تماماً كالأفلام التي نشاهدها على التلفاز.. نتنفس عبق البحر.. ونتنغّم بأصوات طيور النورس الحائمة حولنا...
وإذا علت الأصوات أكثر.. أتذكر لقاءنا الأول.. وعينيك الدافئتين.. التي تأسراني وتحلِّق بي إلى عالمٍ آمن..
رذاذ البحر ذكّرني بقطرات المطر المتساقط علينا في تلك الليلة الخريفية الساحرة.. عندما التقت أعيننا لأول مرة.. والذي كان الشرارة الأولى لحبنا الدافئ..
ضمَّتُك لي في عرض البحر شبيهةً بحرارة ضمَّتُك الأولى لي.. والتي جعلت روحي تتعلّق بروحك وتحلِّق معها عالياً..
عشت لحظات طويلة في عالمي الخاص.. منفصلةً تماماً عن كل ما يدور حولي.. حتى أنني لم أنتبَّه لجموع الناس الغارقة.. ولم أكترث بحالة الهلع والرعب التي كنَّا فيها آنذاك.. فأنا في الماء وفقدت الإحساس بكل جسدي.. إلا قلبي .. فنبضات حبك أنقذتني.. وكانت سترة النجاة.. وطوق الخلاص... لا أتذكّر كثيراً عدد الساعات التي قضيناها ونحن ننتظر فِرَق الإنقاذ... هذا غير مهم.. فنحن معاً.. وكما تعاهدنا.. في السراء والضراء... فكيف لي أن أستمتع باللحظات السعيدة دون التعرُّض لبعض العقبات هنا وهناك.. هذا ليس مهماً على الإطلاق .. فالحياة أمامنا.. والجنة بإنتظارنا... وحُبّك يكفيني...
_ الحمد لله .. لقد وصلنا.. لقد نجونا ....
أيقظتني هذه الكلمات من غيبوبتي.. وأعادتني من عالم السحر والعشق إلى أرض الواقع.. فالناس لم تنفك عن الصراخ والتصفيق ابتهالاً وابتهاجاً بوصولنا إلى الشاطئ ... نعم لقد وصلنا.. تنفّسنا الصعداء.. وتبادلنا مع من حولنا عبارات السلامة والإطمئنان..لكن فرحتنا لم تكتمل ....
يتبع...