- الحمد لله .. لقد وصلنا.. لقد نجونا ....
أيقظتني هذه الكلمات من غيبوبتي.. وأعادتني من عالم السحر والعشق إلى أرض الواقع.. فالناس لم تنفك عن الصراخ والتصفيق ابتهالاً وابتهاجاً بوصولنا إلى الشاطئ ... نعم لقد وصلنا.. تنفّسنا الصعداء.. وتبادلنا مع من حولنا عبارات السلامة والاطمئنان.. لكن فرحتنا لم تكتمل .. فهنا امرأةٌ تبكي وتستنجد باحثةً عن زوجها بين الواصلين.... وهناك مجموعة أطفال يقفون حول أمهم النائمة... يشدّونها ويصرخون عالياً علَّها تستفيق .. ولكنها تغط في سباتٍ عميق... وهناك عجوز ينتحب ويلطم وجهه.. ويتمتم بجمل وعبارات غير مفهومة... والكثير الكثير من النحيب والصراخ.. ابتعدت عن هذه الجموع الباكية.. وتمسّكت بك .. ورسمت ضحكة تسعد وجهك المهموم..
تابعنا الرحلة سيراً على الأقدام... وأنا أعبث بمحتويات حقيبتي المبتلة..
- آه.. صندوقي .. لقد ابتلَّ .. لكنه لا يزال يعمل.. حمداً لله.. انظر.. يا إلهي لقد تبدّل لونه .. هذا غير مهم... الأهم أن أنغامه لا زالت جميلة..
لطالما رافقتني هذه الألحان طوال فترة مسيرنا...
نمشي تارةً.. ونرتاح تارةً أخرى... أُمسك بيدك مرة.. وتحملني مرات كثيرة... ننام تحت الأشجار.. ونشرب من ماء الينابيع والأنهار..
ذات مرة.. تركتني وصندوقي وحيدين.. وذهبت مع بعض الجموع للتحدُّث مع شرطة الحدود .. وأنا أراقبك من بعيد تارةً .... وتارةً أخرى أفتح صندوقي الثمين وأستمع لألحانه الدافئة التي غطّت على تلك الأصوات العالية هناك...
- لماذا كل هذا الصراخ؟
- لماذا يصرخ ؟؟..لا أدري...
آه يا صندوقي العزيز... هذه الرحلة طويلةً ومتعبة.. لم أتخيّلها بهذه المشقّة قط..
أغلقت صندوقي بسرعة على وقع أقدامك الراكضة .. وأنت تلوح لي بيدك من بعيد..
- هيا... أسرعي قبل أن تأتي الشرطة..
- نعم .. يجب عليَّ الذهاب الآن .. لقد استطاع الناس فتح ثقب صغير من هذا السياج الجارح..
لا أفهم لماذا يتفنن البشر في صنع أدوات تفرّق بين بني جنسها.. فنحن نعيش في عالم واحد.. والسياج صُنع لحديقة الحيوان..
وقفنا في الصف الطويل .. والناس من أمامنا تتدافع بقوة.. تصرخ وتركع وتزحف.. وتقذف حقائبها من فوق السور...
أمٌ تحمل رضيعها الصغير.. وتضمّه إلى صدرها .. لتحميه من تلك الأشواك الحادة.. يبكي ويصرخ وهي تهدِّأه وتخفف من روعه وهي دامية الوجه..
شابٌ يحمل أمه العجوز على ظهره.. يضعها أمام السور ويشرح لها بصوت عالٍ و رفقٍ شديد ما يتوجّب عليها فعله..
مجموعة من الشبان الذين يحملون صديقهم المصاب.. يضحكون معه ويمازحوه.. و يساعدونه على تخطّي هذا الحاجز الصعب..
عائلة مكونة من عدد لا نهائي من النساء والأطفال.. يصرخون وهم يحملون أطفالهم بأيديهم ويتقاذفوهم فوق السياج وتحته ..
أطفال متعبةٌ.. متسخة.. خائفة.. رثّة الثياب.. هرمة.. منهكة.. خطفت هذه الرحلة الشاقة براءة وجوههم.. و سرقت منهم بسمة شفاههم المتجمدة ..
- هيا لقد حان دورنا.. انبطحي على الأرض .. وازحفي بسرعة وانتبهي من الشوك.. وأنا سأتبعك.. لا تخافي .. أنت شجاعة جداً.. فالجنة تنتظرنا في الطرف المقابل للسور.. ولم يبقى بعد هذا السور أيّة متاعب.. أعدك... هيا... هيا لا تتأخري..
هاتي حقيبتك.. سوف أقذفها من فوق السور..
- لا.. ليس حقيبتي.. سوف تبقى معي.. أخاف ان ينكسر الصندوق.. لا..
- حسناً .. حسناً .. اهدئي.. كما تريدين..
ضممت صندوقي بقوة.. كما فعلت تلك الأم الدامية مع طفلها.. وزحفت ببطء.. والناس من خلفي تصرخ وتتطلب مني الإسراع... ولكنني لا أستطيع.. فالمكان ضيق.. والأشواك تقطّع خصل شعري الذهبية.. آه كم كنت تحب شعري.. كم كنت تقول لي بأنه يعكس نور الشمس.. ويتتطاير مثل نسمات الصيف العليلة..
لا أعلم بالتحديد عدد الدقائق التي قضيتها زاحفةً بإتجاه الفتحة الشائكة... كل ما أعرفه أنه كان طويلٌ جداً.. بعدد خصلاتي الذهبية الممزقة .. وبعدد خدوش الأطفال وجراحهم المتألمة ..
ها قد وصلنا..
أمسكنا ببعضنا بفرح شديد.. وركضنا كالمجنونين في الحقول الخضراء.... يا إلهي... شعرت بفرح غامر.. وغبطةً شديدة.. لم يعكرها إلا صوت اهتزاز قدم صندوقي المنكسرة...
- لا يهم.. الأهم أنها لا زالت موجودة.. سوف أُصلحها عندما نصل... تركت ذاك السور الشائك ورائي.. وتركت معه الكثير الكثير من خصل شعري الذهبية.. لا يهم سوف تنمو من جديد... الأهم أن البسمة لن تفارق شفاهنا بعد اليوم...
- ها قد بردت القهوة.. قبل أن أشربها... و يجب عليّ إعادة تسخينها..
اتجهت إلى مطبخي الصغير.. وقررت أن أصنع كوباً جديد.. فاليوم هو يوم تاريخي بالنسبة إلي ومنعطف هام.. أواجهه وأعيشه وحدي.. بعيداً عن دموع أمي الغزيرة.. ونظرات زوجي الداعمة..
وضعت الوعاء على النار.. وأخذت أراقب فقاعات الماء المتبخرة بتمعُّن.. والتي شكّلت غيمةً ملاصقة لغيمة أفكاري..
كم تخيلت ....
يتبع في الجزء الثالث