الارشيف / ثقافة و فن

رحلة حب - الحلقة الثالثة و الأخيرة

- ها قد بردت القهوة.. قبل أن أشربها... و يجب عليَّ أن أُعيد تسخينها..

اتجهت إلى مطبخي الصغير.. وقررت أن أصنع كوباً جديداً.. فاليوم هو يوم تاريخي بالنسبة إليَّ ومنعطف هام.. أواجهه وأعيشه وحدي.. بعيداً عن دموع أمي الغزيرة.. ونظرات زوجي الداعمة..
وضعت الوعاء على النار.. وأخذت أراقب فقاعات الماء المتبخرة.. التي شكّلت غيمةً ملاصقة لغيمة أفكاري..

كم تخيّلت وأنا في خيمتي الصغيرة في تلك الأيام العصيبة التي قضيناها في الغابات .. وكم حلمت بـبيتنا الجميل على ضفة البحيرة.. الذي طالما تخيّلته و رسمته وأنا صغيرة..

كوخ صغير.. ذو مدخنة دافئة.. بحيرة عذبة... يسبح فيها البط والبجع.. شجرة بلوط قديمة تنسدل منها أغصانها المتينة أرجوحة خشبية صغيرة يتدافعها أطفالنا بفرح وسرور.. نعم أطفالنا.. فأنا أحب أن أُنجب أطفال يشبهونك.. يركضون ويمرحون هنا وهناك.. لتكتمل سعادتي..

لم أتمكّن من إحصاء عدد الأيام والأسابيع التي قضيناها في الطرقات وبين الأشجار.. ولكنني لا أكترث .. فهو شهر.. شهر عسل.. من المؤكد أن الناس لم تُطلق عليه هذا الاسم هباءً..

 


 

فأنت معي.. أنظر إلى الحياة من خلالك.. وأتنفّس عبق عشقك.. وأتنغم بألحان صندوقي المكسور.. ندندن معاً.. ونركض معاً.. ونضحك ونقهقه كثيراً كلما نظرنا إلى بعضنا.. لكنني لم أتضايق من ضحكاتك الساخرة.. فأنا أعلم أنني لم أعد تلك العروس المزينة .. ولكن سخريتك جعلتني أهرع إلى صندوقي الصغيرة المركون في زوايا الخيمة المهترئة..
- يا إلهي..!!!... لا... كيف حدث هذا... ومتى ؟...
لقد كُسرت مرآته الصغيرة إلى نصفين... مما زاد في جمال هيئتي المتسخة.. فلقد بِتُّ أرى نفسي مشوهةً ومجزءة.. أغلقت الصندوق بحزنٍ بالغ.. وألقيت نفسي بين ذراعيك باكيةً...
- قل لي أني لا زلت جميلة.. قل.. أريد أن أسمعها منك..
- طبعاً كنت ولا زلت وستبقين الفراشة التي تُذهب عني الهم والحزن.. لا تأبهي لسخريتي.. فأنا لست بأحسن حالٍ منك.. انظري إلي أصابع قدمي الخارجة عن الحذاء... انظري.. إنها تُلقي عليك التحية... هيا.. أرني إبتسامتك الساحرة... لم يعد أمامنا سوى القليل القليل لنصل .. وستبقى هذه الأيام الطويلة ذكرى نضحك عليها ونقصّها لأطفالنا في المستقبل...

تناولت كوبي الجديد .. وحاولت ارتشاف بعض القطرات... لكن .. لا.. إنها مُرّة كالعلقم.. أمرُّ من أن أستطيع إستيساغها.. لا بأس .. سوف أضع ملعقة صغيرة جداً من السكر.. وسيكون هذا بمثابة تدريج.. فأنا لن أستطيع تنفيذ قراري كاملاً.. يجب عليَّ أن أستغني عن السكر رويداً رويداً...

أمسكت الملعقة الصغيرة... وبدأت أُقلِّب بين ذرات السكر البلورية الصغيرة.. سارحةً بخيالي ومسافرةً إلى تلك الأيام والليالي العصيبة... آه كم كانت عصيبة.. كم مشينا .. كم تعبنا.. كم عطشنا.. كثيراً ما تملّكني في تلك الأوقات الرغبة الجامحة في الصراخ وسط تلك الجموع الحاشدة.. أو الصراخ في وسط البحر مع الأجساد الطائفة... أو في وجه هؤلاء الآباء الذين حكموا على عوائلهم وأطفالهم بالشقاء.. وأذاقوهم مرارة البؤس والتشرد... أو أن أصرخ في وجه رجال الأمن وشرطة الحدود الرافضين فتح البوابات لتلك الأم الدامية مع رضيعها...

 

 

 

نثرت الحبات بعيداً .. ومعها علبة السكر كاملةً... وبدأت بالصراخ تنفيذاً لرغبتي المكبوتة...
- لا...لم تكن نائمة... كفاني تعامياً عن الحقيقة... لقد ماتت غرقاً.. لقد حُكم على أطفالها العيش في مستنقع اليتم والتشرُّد.. لن أستطيع النوم بعد الآن.. وستتحوّل وجوههم الباكية إلى أشباحٍ تتطاردني كل ليلة .. وتنسج لي كوابيس مخيفة..

- ذاك العجوز .. فقد ابنه الوحيد في البحر.. ابنه الذي يدخره للأيام و يتكأ عليه في شيخوخته .. ويتنعّم برؤيته كل صباح.. عندما كان يحمله على ظهره... في طريق سفرنا الشاق.. ابتعلته أمواج البحر الهائجة.. دون رحمة.. وغيّبته في أعماقها المظلمة .. تاركةً العجوز وحيداً.. خائر القوى.. دون قبلة وداعٍ.. أو حتى شاهدة قبر..

ستبقى تلك المشاهد القاسية تلاحقني مهما حييت.. وسيغلب صراخ الأطفال على أنغام صندوقي.. آه.. صندوقي... تركت كوبي وحيداً... وهرعت إليه وتمسّكت به باكيةً.. لكنه يهتز...
صندوقي الخشبي الصغير... لم يسلم أيضاً.. تلاشت ألوانه... و كُسِرت قدمه... وانشطرت مرآته إلى جزيئات صغيرة... والتي أصبحت تعكس صورة وجهي الهرم .. و روحي المشوّهة.. حتى أن أنغامه العذبة قد تغيّرت.. وأصبحت لعنة تلاحقني دائماً.. وأضحت تذكِّرني بكل تلك المآسي التي صادفتها في طريق رحلتنا المجنونة.. بصرخات الأطفال ووجههم المتعبة... بتنهيدات العجائز ... بأنين الأمهات الثكلى...

نعم لقد وصلت .. وصلت إلى بر الأمان .. وصلت إلى تلك الجنة التي طالما ما وصفتها لي .. وصلت ... وصلت جسداً بلا روح... ماضياً بلا مستقبل.. شبحاً يهيم في هذه الحياة القاسية.. بلا هدف.. بلا قلب.. بلا مشاعر.. بلا رغبة في العيش..

 

 


وصلت بروح ممزقة.. ومستقبل قاتم.. يعد الدقائق ويقّلب الأيام .. دون الإكتراث لتاريخٍ.. أو انتظار لمجهول.. 
أصبحت رمادية الروح.. ساكنة الحركة.. باردة المشاعر.. قليلة الكلام.. لا أهتم لشيء .. لا أبتسم ولا أحزن.. ولا أهتم لتقلُّب الفصول و مرور الأعوام.. لا تغمرني أشعة الشمس.. ولا تنعشني حبات المطر.. ولا تستفزني العواصف العاتية.. ولا تحرك الرياح القوية خصل شعري القصير..

كيف يحدث هذا؟..
كيف لبضع أسابيع من عمرنا أن تُغيّر مشاعرنا... فتدمر أرواحنا .. وتزهق أحلامنا..
كيف استطاعت هذه الرحلة المشؤومة هزيمة تفاؤلي الصامد؟.. وإخماد طاقتي المشتعلة.. 
فقدت نفسي.. وروحي المفعمة بالحياة.. وقلبي النابض بالحب والعطاء.. فقدت رغبتي في في تحقيق أحلامي... آه.. أحلامي.. لم أذكر هذه الكلمة منذ زمن...

رفعت صندوقي المهشّم من الأرض.. و نفضت عنه ذرات السكر المتناثرة.. ألقيت على مرآته نظرة أخيرة.. وغيبت في عتمته ما تبقّى من مشاعري وأحلامي.. ونهضت.. حاملةً كوبي البارد.. في هذه البلاد الباردة.. مكملةً إيقاع حياتي الرتيب الآمن.. والخالي من كل شيء..
ولكنني ورغم كل ما مرَّ بي من مآسي.. لا زلت أجلس كل صباح .. أحاول أن أشتم عبق التفاؤل .. وأُمسك خيوط الأمل.. حاملةً كوبي الدافئ.. متأملةً شريط حياتي القصير.. الذاخر بالصور والأحداث .. المؤلمة منها والسعيدة.. حتى أنني لم أعد أعلم كفَّة من سترجح في النهاية ؟ .. ولكنني بِتُّ على يقين كامل.. بأنني لم أعد أحتاج إلى السكر...

 

 

 

----------------النهاية-------------

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

قد تقرأ أيضا