من الرد الساخر يأتي سليم مراد بعنوان فيلمه التسجيلي المثير "امبراطور النمسا"، والذي شاهدناه في أيام قرطاج السينمائية ضمن مسابقة العمل الأول، عمل مقتحم وجرئ على مستوى شكله ومضمونه.
المضمون متجاوز لكل القيود والمحاذير المعتادة حتى في أكثر الأفلام العربية جرأة، المخرج هنا لا يُفصح عن مثليته فحسب، بل يُدخل المشاهد معه في أسئلته الحياتية المرتبطة بهوية جنسية لا يزال القطاع الأكبر من المجتمعات العربية يراها جريمة تستحق العقاب، هذا شاب لا يتسائل عن ميوله وإنما يطرح إشكاليات تنطلق من التسليم بها: لماذا لا يريد والدي أن يتحدث معي حول هذا الأمر؟ وهل سأكون سبباً في انقطاع سلسال العائلة فأرحل دون أن أترك من يليني في هذا العالم؟
سليم مراد يتعامل مع تيهه بما يلائمه بصرياً من حيرة وإطناب، فهذه إشكاليات لا يمكن بحثها في مقابلات تسجيلية على النمط التلفزيوني، وهذه مآزق لا تصدم صاحبها في لحظة عابرة، بل هي أمور تسير معه كتفاً بكتف، كل يوم في حياته، يؤجلها أياماً ويتفادي التفكير فيها، ثم يعود وينشغل بها لتملاً ذهنه وخياله فيضيع فيها من جديد.
img src="http://media.filfan.com/images/NewsPics/FilfanNew/large/136938.jpg" alt="أيام قرطاج" Width="100%"/>
على هذه الشاكلة يأتي البناء الذي اختاره المخرج لفيلمه، يزرع السؤال بشكل خافت في أذهاننا، ويجعلنا نفتش معه عن إجابة تشفي ظمأ طرفي الحكاية، الأب والابن، الأب الذي يتظاهر بقبول الوضع لكننا نوقن أنها اضطر للتعايش معه لأنه ما من سبيل آخر لا ينتهي بقطع العلاقة مع وحيده، وبالتالي لا نصدقه عندما يسخر من سؤال انقطاع الذرية، فهو في سويداء قلبه ولو أنكر، والابن الذي يعبر عن هواجسه بصورة أكثر تجريداً، فيها تلاعب بالتكوينات والألوان، ومشاهد مصنوعة يحادث فيها امرأة هي صورة لجدله مع الذات.
طريق المخرج يقوده للتفتيش في ماضي أسرته، وبينما نسمع صوتاً يردد أبناء داود حتى الجيل العشرين ربما، يصل سليم مراد لشجرة مماثلة سيكون هو آخر أوراقها، رابطاً هذا بالمنزل القديم الذي يريد الأب أن يهدمه ليصعد مكانه بناءً حديثاً فترفض السلطات حفاظاً على التراث. فكل شيء هنا هو جدل بين التراث والمعاصرة، بين مبنى قديم لا يستفيد منه أحد رغم شاعرية وجوده، وواقع فيه الإفادة ممتزجة بنسف الذاكرة، وبالقبح على الأرجح.
img src="http://media.filfan.com/images/NewsPics/FilfanNew/large/136939.jpg" alt="أيام قرطاج" Width="100%"/>
التوظيف ذاته لشريط الصوت يتكرر فيما يتعلق بالدين، وهو بطبيعة الحال مهمش في حياة الأسرة التي قبلت مثلية ابنها، لكنه ليس غائباً كلياً، بل هو هناك في مؤخرة الرأس، في وعظة تصم اللوطيين وتعدهم بالجحيم، في قول هنا وهناك، نسمعها أيضاً في مؤخرة رأسنا حسب البناء الصوتي للفيلم، في استكمال لتجربة المخرج الساعية من البداية لوضع المشاهد ـ على الأقل جزئياً ـ داخل عقله هو، أن يكون الفيلم هو النسخة المرئية والمسموعة من أفكار صاحبه، وهو خيار لا ينقصه الجرأة، بل يكاد يكون أجرأ حتى من تصريحه بميوله، فهو لا يفاخر بالتصريح ولا يتاجر به، بل يترجمه لمشاهد هي الأخرى غير مريحة، مخاطراً حتى بالتعاطف الذي لا يريده "امبراطور النمسا" ولا يستجديه.
وإذا كان علماء النفس يصفون علاقة الابن بأبيه هي واحدة من أكثر العلاقات تعقيداً، فإن هذا الفيلم يعرض واحدة من أصعب صور هذه العلاقة، صورة الأم فيها غائبة حاضرة بينما من الأب ينبع كل شيء ويعود. المثلية والذرية والتراث والدين وكل ما يعبر الفيلم به هي مجرد هوامش وتنويعات لشرخ مؤلم لا يلتئم، وعندما يصيح المخرج في أحد حواراته مع والده الذي لا يريد إجابة أسئلته "هل تريد أن نظل نتحدث عن الطقس حتى وفاتك؟"، فهو يعبر تلقائياً مأزق العمر، عن حوار حتى وإن دار بينهما فهو يحوم حول الأمور ويتجاهل الحقائق المؤلمة.
في هذه المكاشفة المؤلمة التي يتعرى فيها سليم مراد من كل تحفظ أو مداهنة للذات أو للآخر داخل الأسرة وأمام الشاشة، تظهر قيمة "امبراطور النمسا" الذي يمكن اعتباره واحداً من أفضل وأجرأ وأنضج الأفلام التسجيلية التي شاهدناها خلال العام الحالي.
اقرأ للكاتب أيضا
عشرة أفلام يجب مشاهدتها في "أيام قرطاج السينمائية"
"كلب بلدي".. انفصال ضروري وخطوة للخلف