الارشيف / ثقافة و فن / في الفن

رسالة أيام قرطاج السينمائية (3): عام السينما التونسية

بإعلان جوائز الدورة السابعة والعشرين من أيام قرطاج السينمائية مساء أمس السبت كانت السينما التونسية هي الرابح الأكبر. صحيح أن الفيلم المتوّج بأكبر عدد من الجوائز كان "اشتباك" للمصري محمد دياب الفائز بأربعة جوائز هي التانيت الفضي وأحسن تصوير ومونتاج وجائزة النقاد الأفارقة، إلا أن تونس كانت الدولة الوحيدة التي توّجت أربعة من أفلامها بجوائز في مسابقات المهرجان الرسمية، على رأسها بالطبع التانيت الذهبي الذي انتزعه فيلم كوثر بن هنية التسجيلي "زينب تكره الثلج"، في أول مرة تجتمع فيها الأفلام الروائية والتسجيلية في مسابقة واحدة.

قد يجد البعض الأمر مرتبطاً بإقامة المهرجان على الأراضي التونسية، وإنه من المعتاد أن تراضي لجان التحكيم السينما المحلية بجائزة ما. غير أن الترضية لا تكون بالجوائز الكبرى (التانيت الذهبي للفيلم الطويل والعمل الأول)، وغير أن من يقول بهذا يتناسى حقيقة بالغة الأهمية هي أن السينما التونسية تمكنت خلال العام الحالي من التواجد ضمن الاختيارات الرسمية لكافة المهرجانات العالمية الكبرى، بل وتوّج فيلمان تونسيان بجائزتي العمل الأول في مهرجاني برلين وفينيسيا، اثنان من أكبر ثلاثة مهرجانات سينمائية في العالم.

وأظن الوقت قد حان للإشارة لأن عام 2016 كان عام السينما التونسية، بمزاحمة واضحة من السينما المصرية التي شهدت أيضاً عاماً من التواجد الكثيف في المهرجانات العالمية، ولكن حصاد الجوائز ونسبة الجيد من إجمالي الإنتاج يجعل الكفة تميل نحو تونس، التي نرصد في هذا المقال مجموعة من أهم تجاربها السينمائية خلال العام، والتي أبرزتها أيام قرطاج السينمائية.


البداية بفيلم كوثر بن هنية المتوّج بالتانيت الذهبي، والذي شاهدناه للمرة الاولى في أغسطس الماضي عندما اختير للقسم الرسمي خارج المسابقة في مهرجان لوكارنو، لتعود بن هنية وتتوج بالجائزة التي يعتز بها التوانسة بشكل خاص، بعد عامين فقط من فتور شاب علاقتها بأيام قرطاج السينمائية عندما لم يتم اختيار فيلمها السابق "شلّاط تونس" للمشاركة في المهرجان رغم سمعته الدولية.

الشلّاط كان عملاً مغامرا عابرا للنوعيات، يتطرق لموضوع شائك يربط السياسة بمشكلة اجتماعية، واحد من الأفلام التي يختلط فيها جدل المضمون بالشكل وتثير عادة الكثير من السجالات. "زينب تكره الثلج" على النقيض تماماً، فيلم هادئ وبسيط، شغلته المخرجة برويّة تستحق التقدير، وكأنه مشروع طويل الأمد تصور فيه قليلاً لتريح أعصابها ثم تتركه لتخوض غمار الحياة، بينما تمر الأيام وتغير من حياة زينب، الفتاة التي يرصد الفيلم نضجها من الطفولة للمراهقة، وانتقالها الجسدي والذهني والمكاني المتزامن مع تركها تونس وذهابها للعيش في كندا، البلد الثلجي الذي كانت تكرهه ثم مرت الأعوام لتصير حياتها في تونس مجرد ذكريات بعيدة تندهش عندما تسترجعها.

في الفيلم إمساك واضح بالتأثير الراديكالي للزمن، فإذا كان نضج زينب استغرق في الواقع أعواماً وآلاف الأميال، فإننا على الشاشة نراه في دقائق، لكننا نضبط أنفسنا نندهش مع الفتاة عندما نشاهد ما قالته في الماضي، وهو واحد من التأثيرات المدهشة للكاميرا التسجيلية الذي يصعب إحداثه بالأصالة ذاتها في فيلم روائي.


من خارج عالم السينما العربية الثرثارة بطبيعتها (وهو وصف مرتبط بالثقافة المحلية وليس ذماً) يأتي فيلم علاء الدين سليم الأول، الذي افتتح عروضه العالمية في أسبوع النقاد بمهرجان فينيسيا ليفوز في نهايته بجائزة أحسن عمل أول في المهرجان، ثم يعود وينال نفس الجائزة في قرطاج، والتي تحمل اسم مؤسس المهرجان الطاهر الشريعة. بالإضافة لفوزه بجائزة شبكة الشاشات العربية البديلة "ناس"، وجائزة الاتحاد العام التونسي للشغل.

"آخر واحد فينا" الذي لا يحتوي سوى على جملة حوار واحدة تقريبا هو عمل خلافي، ترصد طوال الوقت من وقعوا في غرامه ومن رفضوا حتى أن يكملوا مشاهدته. السبب ليس خلّوه من الحوار بالطبع، ولكن لأنه يتلاعب باستقبال المشاهد للفيلم بخبث محبب، فينطلق من نقطة تُشعر الجمهور أنه فيلم آخر عن الهجرة غير الشرعية، قبل يحوّل مساره سريعاً ليدخل مساحة أوسع من التعاطي مع علاقة الإنسان بالطبيعة، يتخلص فيها البطل تدريجياً مما حمله على أكتافه أعواماً من تراث وذاكرة وقيود معاصرة، وينصهر مع عالم بدائي ربما يكون في النهاية هو مصير البشرية كلها.


ربما يكون فيلم محمد بن عطية أكثر فيلم عربي كُتب عنه خلال العام، فمنذ افتتاحه في فبراير الماضي لمسابقة مهرجان برلين الرسمية، والتي توّج في نهايتها بجائزتي أحسن عمل أول وأحسن ممثل، والفيلم يكمل مسيرة ناجحة ليس فقط في المهرجانات، بل على الشاشات الجماهيرية المحلية بتحقيق إيرادات قياسية عندما عُرض في الصالات التونسية.

فيلم بن عطية الذي توج بطله مجد مستورة في قرطاج بجائزة أحسن ممثل في مسابقة العمل الأول يستحق بالتأكيد كل هذه الحفاوة، بما يمثله من نموذج لسينما عربية حديثة منضبطة. هي سينما عربية لأنها نابعة من المجتمع المحلي ترتبط الدراما فيها من ثقافة شرقية وضعت على البطل هادي القيود التي تشكل حياته، ولارتباطها في أحد مستويات التأويل بالتغير المجتمعي الحادث في المنطقة والمرتبط جوهرياً بمحاولة التخلص من ميراث سلطة أبوية تفرض على الأفراد خيارات حياتهم.

هي أيضا سينما حديثة لأنها بعيدة كلياً عن الإطناب والمباشرة، لا ترفع شعارات أو ترفع صوتها ولو قليلاً لتفسير ما تحمله داخلها من أفكار، فقط تروي الحكاية بأبسط الطرق وأكثرها صدقاً وواقعية، وهو ما يجعلنا نصفها بالمنضبطة، فهذا فيلم لا إفراط فيه في أي شيء، وهو في حد ذاته أمر يستحق التقدير.


ربما يكون ـ على الأقل في رأي كاتب السطور ـ هو العمل الأقل إثارة للدهشة بين الأفلام الأربعة المتوجة بجوائز قرطاج الرسمية، ففيلم كريم دريدي الذي عُرض للمرة الأولى كاختيار رسمي خارج المسابقة في مهرجان كان خلال مايو الماضي هو تنويعة لسينما الدياسبورا المغاربية، شتات الفرد ذي الأصول العربية والذي يعيش في الغرب (فرنساً تحديداً) حالماً بمستقبل أفضل يرسمه لنفسه، فيصطدم بحقائق العالم وضيق الخيارات التي تدفعه نحو الانغماس في المزيج المعتاد من العنف والجريمة.

لجنة تحكيم الموريتاني عبد الرحمن سيساكو منحت "شوف" جائزة أحسن موسيقى وهي مستحقة في عمل يمزج موسيقى الراب برحلة البطل إلى عالم الجريمة، وإن كان هذا هو الآخر ليس خياراً مدهشاً أو جديداً فالراب صار المعادل الموسيقى للجريمة في عشرات الأفلام خلال الأعوام الأخيرة. اللجنة منحت أيضاً بطل الفيلم فؤاد نابا جائزة أحسن ممثل، وهو اختيار يؤخذ منه ويرد في ظل وجود أداءات لممثلين ربما قدموا ما هو أفضل في أفلام شاركت بالمسابقة.


بعيداً عن الأفلام الأربعة المتوّجة كانت الجودة عنواناً لأفلام تونسية أخرى عرضها المهرجان، على رأسها "غدوة حيّ" الشريط الطويل الأول للطفي عاشور بعد أفلام قصيرة ممتازة كان آخرها "علّوش" الذي تنافس هو الآخر في المسابقة الرسمية لمهرجان كان الأخير. "غدوة حي" هو محاولة لمد الخطوط على استقامتها، واستقراء تأثير اللقاء العابر الذي رتبته الثورة التونسية بين ثلاث طوائف مجتمعية: المثقف والسلطة والفقير، لتمر الأعوام ويكتشف كل طرف أن مصيره صار مرتبطاً بالآخرين.

وإذا ما تجاوزنا أضعف الخيارات وهو الصدفة عسيرة التصديق التي حركت المقابلة في بداية الفيلم، فنحن أمام فيلم ناضج على كل مستويات صنعه بما يليق بمخرج كبير لا صانع أفلام يقدم عمله الأول، وأخص بالذكر الأداء الممتاز لبطلة الفيلم أنيسة داود التي تواصل ظهورها اللافت بعد تألقها العام الماضي في فيلم فارس نعناع "شبابك الجنة"، لتفوز عن دورها في "غدوة حي" بجائزة المنظمة التونسية للمرأة والذاكرة لأحسن دور نسائي.

عمل أول آخر جيد هو "تالة حبيبتي" للمخرج مهدي هميلي، يرتبط هو الآخر بلحظة الثورة التونسية ولكن بشكل عكسي، فإذا كان لطفي عاشور ينطلق منها لتلمس تأثيرها، فإن "تالة حبيبتي" يربط اللحظة بما سبقها، بالماضي القمعي الذي يحاول البطل محمد التخلص من آثاره بعدما تسببت سنوات سجنه في تقليص حلمه في لقاء حبيبته، وكأن هميلي يتعامل مع الثورة كنتيجة بينما يقدمها عاشور سبباً ومحركا دراميا.

إذا أضفنا لما سبق عودة سينمائيين كبار لتقديم أعمالهم كرضا الباهي الذي افتتح فيلمه "زهرة حلب" أيام قرطاج السينمائية وفريد بوغدير الذي حضرنا عرضاً استثنائياً لجديده "زيزو" داخل أحد السجون التونسية، ورجاء العماري التي عرض فيلمها الجديد "جسد غريب" في مهرجان تورنتو بنجاح كبير ومن المنتظر أن يشهد مهرجان دبي بعد شهر عرضه العربي الأول، فيمكننا أن نؤكد بثقة ما قلناه في البداية بأن 2016 كانت بلا جدال هي سنة السينما التونسية.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى