لطالما صُوِّر الإسلاميّون في طرابلس على أنّهم وجه "فاقع" للتطرف، إذ أنه منذ منتصف الثمانينات من القرن الماضي وصولاً الى معارك "باب التبانة وجبل محسن" بجولاتها العشرين، تعاطى الإعلام الموجّه بظلم مع الإسلاميين حيث أسقط تهمة "الإرهاب" عليهم جميعاً نتيجة لأفعال البعض.
ولم يسعَ هذا الإعلام طوال الفترة الماضية إلى البحث عن الأسباب، مثله مثل الدولة الغائبة، بل عمل على إصدار الأحكام القاسية بحق شريحة كبيرة من المجتمع الطرابلسي دون النظر إلى نتائجها الكارثية.
لكنّ ابن طرابلس "بلال موّاس" لم ييأس أبداً من محاولات نزع تلك الفكرة من لاوعي الإعلام، فدأب على بثّ نفَسِهِ الإسلامي في الحركة الثقافية في طرابلس وكأنه أراد أن يقول: "كفى! نحن دعاةُ سلام"! من هُنا انطلقت مسرحية "شقفة.... من شقفة ورقة" برعاية جمعية العزم والسعادة على مسرح الرابطة الثقافية حيث عجّت صالة العرض بوجوه من مختلف شرائح المجتمع الطرابلسي الذين لبّوا دعوة "مواس" الذي اعتاد أن "ينكُش" الفرح في قلوب يبِست من الحزن والهمّ!
ويعكس "موّاس" في هذه المسرحية واقعاً طرابلسياً مريرا، هو الـstereotype الذي عمدت السلطات على طبعه في وجدان الّلبنانيين بدءاً من السلطة السياسية من جهة والتي استخدمت الوجه الإسلامي وأمعنت في الدعم لجماعات التطرف ثم عملت جاهدة على ضرب هذه الجماعات والتبرؤ منها بحجة "الاعتدال"، ذلك إضافة الى سوء التخطيط وانعدام التوعية الاجتماعية وانحسار التعليم وغياب مؤسسات الرعاية. ومن جهة اخرى لعبت السلطة الأمنية دوراً رئيسيا في التجنّي، فتلك الأجهزة الحريصة على فرض الأمن في كافة المناطق اللبنانية، بدت متعطّشة لإنجازات في طرابلس مهما كلّف الثمن، والتي تسبّبت بسجن المئات دون وجه حق، تارةً لشكل لحيةٍ منزوعة الشارب وأخرى لمقطع نشيد حمّله شاب متحمّس على هاتفه. ومما لا شك فيه أن كان للسلطة الرابعة الموجهة من السلطتين السياسية والأمنيّة فرصة "قطع الأعناق" والتي لم تتوانَ عبر برامجها وشرائطها المصورة عن دمغ طرابلس بطابع "الارهاب"!
وفي الحديث عن سيناريو المسرحية، يُلقى القبض على "بلال موّاس" مرتدياً عباءته التقليدية، ويُتّهم بالتخطيط لتفجير نفسه على "كورنيش الميناء" دون حزام ناسفٍ أو أي أدلّة مادية تشي بتورّطه ثم يُجبر الرجل في التحقيق على الإعتراف بما ليس صحيحاً نتيجة ضغوط المحقّق، هذا المحقّق الذي يحيّد صديق "الموّاس" في المسرحية "جورج" عن الإتهام رغم تواجد الأخير برفقة "بلال" أثناء عملية المداهمة، ويمنحه صفة شاهد كونه آتٍ من بيئةٍ لا تُفجّر نفسها مقابل 70 حورية! "أنا طرابلسي سنّي وجسمي لبّيس" هكذا سخر "بلال" من منطق التعاطي مع الإسلاميين، فالتهمة جاهزة والثوب جاهز، و"ياما في الحبس مظاليم"!!
وعبر مجموعة من الأغاني المركّبة، مرفقة بعبارات فكاهية استطاع "موّاس" إيصال رسالته للجميع، والتي كان يهدف من خلالها التأكيد على العيش المشترك ووحدة الصف والسعي للحفاظ على الأمن والأمان، معتبراً أن طرابلس هي الصورة الحضارية لكل هذه المفاهيم، وما المساجد والكنائس معاً سوى تعزيز لمشهد الاختلاف ورفض الخلاف، ليضرب بذلك "مواس" سرباً من العصافير بحجرٍ واحدٍ و"بالأمزاح بتشتفي الأرواح"!
وقد تطرّأ "مواس" الى حالة القلق والقرف المسيطرة على أجواء طرابلس والتي سبّبتها السلطة السياسية بغالبيتها، سلطة تسلّقت سلّم اسلاميي المدينة من أجل الوصول وحين وصلت سحبت السلّم، وزجّت بالأجهزة الأمنية في مواجهة هذا الخليط من البساطة والالتزام والتطرف احياناً، فبات هؤلاء معلّقون ما بين الأرض والسماء، لا يملكون صعودا ولا هبوطا!
لم تبدُ صرخة الموهوب بلال موّاس يتيمة، فشوارع طرابلس تشهد بشكلٍ شبه أسبوعي لا سيّما أيّام الجمعة والآحاد على تحرّكات لأهالي الموقوفين الإسلاميين في سجن رومية، والذي تبيّن بعد أعوام أن عددا لا بأس به منهم قد قضوا ما يزيد بأضعاف عن مدّة الأحكام القانونية هذا لو كانوا طبعاً قد حوكموا آنذاك!
خطوة "مواس" المتضامنة مع نهج العزم والسعادة بالعيش المشترك والمعنى الأسمى للاعتدال، يأمل أبناء طرابلس أن تلقى بالفعل آذانًا صاغية، ليس عبر الإسراع في المحاكمات واطلاق سراح الموقوفين وحسب، إنما لنزع النظرة الشمولية عن كل من أرخى لحيته وأطلق العنان لطقوسه الملتزمة.
على مدرّجات مسرح "الرابطة الثفافية" بدا الشماليّون ضاحكين باكين، فالواقع مضني، وسقف الأحلام هبط على رؤوسهم وأحبط عزيمتهم وآمالاهم في إحقاق العدل والإنصاف، وكذلك فإن التغيير يبدو محالا في ظلّ "التطنيش" عن أوجاعهم والتعتيم على طموحاتهم بحيث "التعتير" بات شبحاً يطاردهم في كلّ لحظة و "عايشين من قلة الموت" شعار يترجم حقاً حجم المعاناة. طرابلس واجهت الظلم بالفنّ، فكيف ستردّ السُّلطة؟