الارشيف / ثقافة و فن / لبنان 24

سافر من غير وداع.. 41 عاماً على غياب العندليب وما زال يغني

لم يكن الظهور الأول للمطرب المغمور آنذاك عبد الحليم حافظ على خشبة المسرح القومي بالإسكندرية صيف 1951 ورديا كما كان يحلم، فقد رفض الجمهور أغنيته الجديدة السابقة لعصرها "صافيني مرة" وقذفه بالبيض والطماطم طالبا منه أداء أغان أخرى للمطرب الذائع الصيت محمد عبد الوهاب، لكنه رفض الاستجابة لهذا الطلب وأصرّ على أداء أغنيته ما دفع متعهد الحفلات إلى طرده من المسرح.

وبحسب تقرير لـ"الجزيرة" عن حياته وكيفية وصوله الى الشهرة الجماهيرية، ذكر موقع القناة أن "بعد نجاح ثورة 23 تموز 1952، غنى حليم الأغنية نفسها في حفل أقيم بالمناسبة في "حديقة الأندلس" وسط القاهرة، فحققت نجاحا مدويا، ثم أعقبها بأغان من اللون الجديد نفسه مثل "فوق الشوك" و"على قد الشوق" وغيرها.

لكن اللافت هنا أن روح الإصرار والتحدي رافقت حليم مذ بداياته، ذلك أنه اختار أن يغني قصيدة صعبة فور اعتماده رسميا مطربا في الإذاعة، وطلب من صديقه الشاعر صلاح عبد الصبور أن يكتب له تلك القصيدة، فتعجب عبد الصبور وقال له "هو في مطرب أول ما يغني يغني قصيدة"، وألف له قصيدة "لقاء" التي ذهب بها إلى صديقه الملحن كمال الطويل الذي وافق على تلحينها، وظهرت بعد ذلك الأغنية التي مطلعها:

بعد عامين التقينا ها هنا .. والدجى يغمر وجه الموردِ

وشربنا النور يخبو حولنا .. وسبحنا في هلال الموكبِ"

انقلاب جذري

وأضافت: "لقد أحدث ظهور عبد الحليم في ذلك الوقت انقلابا جذريا في شكل الأغنية العربية كلمات ولحنا وأداء، وهو ما أدى إلى بروز اتجاهين: الأول رافض له ويقوده الملحن رياض السنباطي الذي لم يلحن له سوى أوبريت "لحن الوفاء" مطلع الخمسينيات، وكان يفضل عليه شقيق حليم الأكبر المطرب إسماعيل شبانة ويقول إن صوته أكثر رصانة وقوة؛ وآخر داعم له ويقوده الموسيقار محمد عبد الوهاب الذي رأى -بعد تردد لم يستمر طويلا- أن حليم هو صوت المستقبل، فتبناه وأسس معه شركة أسمها "صوت الفن".

ولعل من حسن حظ المطرب الشاب -المصاب بالبلهارسيا منذ طفولته والقادم من عمق الريف المصري- أن يتزامن ظهوره مع بداية ثورة 23 تموز، مما جعله يحظى بغناء عدد كبير من الألحان التي كرسته مطربا للثورة على مدار السنوات التي حكم فيها الرئيس جمال عبد الناصر مصر وحتى وفاته في أواخر أيلول 1970.

وكان حليم معروفا بذكائه الحاد، ففهم مع بداية الثورة أن ناصر هو زعيمها، بينما أدرك ناصر في المقابل أن حليم هو الصوت الذي سينقل أفكاره للشعب، فغنى حليم العديد من الأغاني الوطنية في تلك الفترة، مثل "السد العالي" و"حكاية شعب" و"ثورتنا المصرية" و"عدى النهار"، وغيرها من الأغاني التي رسخت في وجدان الشعب العربي وثبتت روح الوطنية فيه، بحسب التقرير.

مغني الجماهير

ويقول الأديب الراحل يوسف إدريس في حديث تلفزيوني إن عبد الحليم له أهمية خاصة في حياتنا لأن ظهوره واكب ثورة 1952، في حين قال الشاعر نزار قباني إن عبد الحليم كان مغني الجماهير وقد قاد شعبا بصوته، وهو وزارة عبد الناصر الحقيقية والفعالة والمؤثرة.

وكانت إسرائيل تدرك ذلك، وتحدث وزير دفاعها آنذاك موشي ديان قائلا إن عبد الحليم ذراع عبد الناصر في التأثير على الجماهير العربية، وعلينا أن نلين هذه الذراع أو نبترها.

وكان وقع نكسة حزيران 1967 مؤلما له شخصيا، لكنه لم يستسلم وعبر بصوته وكلمات عبد الرحمن الأبنودي عن أنين الوطن وحسرة الهزيمة بعدة أغان، من أشهرها "عدى النهار" و"فدائي"، كما غنى للقدس على مسرح "ألبرت هول" وسط لندن أغنيته الشهيرة "المسيح" التي تقول بعض كلماتها:

دلوقت يا قدس ابنك زي المسيح غريب غريب

تاج الشوك فوق جبينه وفوق كتفه الصليب

خانوه... خانوه نفس اليهود

ابنك يا قدس زي المسيح لازم يعود.. على أرضها

وعلى مدار تلك السنوات، رسخت أغانيه الوطنية والعاطفية نجوميته، كما استغل المخرجون شهرته وأسندوا إليه بطولة العديد من الأفلام، أبرزها "لحن الوفاء" و"دليلة" و"حكاية حب" و"الخطايا" و"أبي فوق الشجرة".

خلافات ومنغصات

ولكن سنوات المجد الفني هذه لم تخل من منغصات، فقد دخل حليم في خلاف علني مع كوكب الشرق أم كلثوم بعد انتهاء حفلتها في عيد الثورة عام 1964 بحضور عبد الناصر.

وخرج حليم على المسرح بعد الحفلة وهو في حالة غليان، وانتابه الشك في أن عبد الوهاب وراء إطالة أم كلثوم حفلتها إلى وقت متأخر من الليل، فقال جملته الشهيرة "إن أم كلثوم وعبد الوهاب أصرا أن أغني في هذا الموعد، وما عرفش إذا كان ده شرف لي ولا مقلب". وثارت أم كلثوم لكرامتها واشترطت ألا يشاركها حليم الغناء في أي احتفال بعيد الثورة، وتم الصلح بينهما بعد سنوات بوساطة من الرئيس الراحل أنور السادات.

وكان الحليم على خلاف آخر مع الموسيقار الراحل فريد الأطرش، وسبب الخلاف أن فريدا غادر مصر واستقر في بيروت منذ 1966، وطيلة غيابه انفرد عبد الحليم بإحياء ليلة عيد "شم النسيم" التي كان فريد احتكر الغناء فيها منذ 25 سنة؛ وفجأة عاد فريد في نيسان 1970 إلى القاهرة ليغنى في ليلة "شم النسيم" بعد غياب طويل.

وتدخّل عبد الناصر في هذا الأمر، وأمر أن يذيع التلفزيون والبرنامج العام حفلة فريد، ويسجل التلفزيون حفلة عبد الحليم وتذيعها إذاعة "صوت العرب" على الهواء، ثم تذاع حفلته في التلفزيون في اليوم التالي.

كما كان لحليم خلاف مع صديقه الكاتب الكبير إحسان عبد القدوس الذي كتب له قصة فيلمه "تائه بين السماء والأرض"، إذ غضب حليم عندما قرأ سيناريو الفيلم الذي يتحدث عن مطرب مشهور لكنه يدعي المرض بمناسبة أو دونها حتى يلفت الأنظار إليه ويضمن استمرار تعاطف المعجبين معه، وكانت أحداث القصة صدمة كبيرة لحليم اهتزت على إثرها الصداقة القديمة بين الطرفين.

أما المخرج يوسف شاهين، فكان لحليم خلاف طريف معه بعد أن أسند دور صديقيه في فيلمه "وتمضي الأيام" إلى الشاعر أحمد فؤاد نجم والمطرب الشيخ إمام، وما إن بدأ حليم قراءة سيناريو الفيلم حتى اهتاج غضبا ومزق صفحات السيناريو، قائلا "المجنون جايب لي شيوعيين يعلماني الوطنية".

كما أن العديد من مطربي عصره، مثل: محمد رشدي ومحرم فؤاد وماهر العطار وغيرهم، كانوا يتهمونه بمحاربتهم ومحاولة الاستحواذ على الأضواء وحده.

وقد دافع حليم عن نفسه في لقاء تلفزيوني قبل رحيله بأشهر، قال فيه إنه لا يغني سوى أغنية جديدة واحدة في السنة بسبب وضعه الصحي، فكيف يغلق الطريق في وجوههم؟

نهاية حزينة

وشاء القدر أن يكتب خاتمة حزينة لمشوار حليم، عندما اشتبك مع جمهوره في أبريل/نيسان 1976 في حفل عيد الربيع الذي تعوّد أن يحييه سنويا.

غنى حليم في هذا الحفل قصيدة "قارئة الفنجان" للشاعر نزار قباني لأول مرة، لكنه فوجئ بمجرد أن بدأ الغناء بمجموعة من الأشخاص يحاولون التشويش عليه أثناء غنائه، إما بمقاطعته أو التصفير المستمر أو عرض بدلة له رسم عليها عدد من الأطباق والفناجين، وقد حاول عبد الحليم إقناعهم بالعدول عن ذلك دون جدوى.

وهنا توقف عن الغناء وقال لهذه المجموعة بعصبية شديدة "بس بقى، أنا أعرف أصفر وأزعق زيكم"، وراح يصفر لهم، ثم أخذ منديلا من جيبه ليمسح العرق الذي كان يتصبب من جبينه وهو في حالة انفعال شديد.

وقد تعرض حليم لحملة إعلامية قاسية نتيجة لذلك، اضطرته لاحقا لتقديم الاعتذار عما بدر منه. ولم يكد يخرج من هذه الواقعة حتى شهد وضعه الصحي بعد عدة أشهر تدهورا خطيرا أثناء مراجعته الدورية لمستشفى كنغز كوليج في لندن مطلع عام 1977 لإجراء عملية حقن الشعيرات الدموية، إذ كان يعاني من تليف بالكبد نتيجة إصابته بالبلهارسيا منذ الصغر ولم يكن له علاج.

فقد اكتشف الطبيب أن عبد الحليم يعاني من نزيف في المريء يتطلب عملية زراعة كبد (وكانت حديثة نسبيا آنذاك)، لكنه رفض إجراء العملية وأصر على أن يتم التركيز فقط على إيقاف النزيف، واضطر الطبيب للرضوخ لطلبه بعد أن فشل في إقناعه؛ غير أن قلب حليم توقف أثناء محاولات وقف النزيف، ليلفظ أنفاسه الأخيرة مساء يوم 30 آذار عن عمر ناهز 48 عاما.

والسؤال المطروح الآن مع حلول الذكرى الحادية والأربعين لرحيله: هل ما زال حليم يتربع على عرش الأغنية العربية؟ وهل ما زال الجمهور يحن إليه في زمن غير زمنه ومن أجيال لم تعاصره أم أن الأجيال الجديدة لم تعد تستهويها أغانيه ولم يعد موجودا في حياتنا؟

(الجزيرة)

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى