أقامتْ مُؤسّسة محمود درويش للإبداع، والاتّحادُ القطريُّ للأدباءِ الفلسطينيّين- الكرمل، وجمعيّة أنصار الضّاد أمسيةً احتفائيّةً بالشّاعر أحمد فوزي أبو بكر، وذلك بتاريخ 21-12-2018، في بيت مؤسّسة محمود درويش كفر ياسيف، ووسط حضورٍ نخبويٍّ من الأدباءِ والشّعراء والأصدقاء، وقد تولّت عرافةَ الأمسية عايدة مغربي، وبعد أن رحّب علي هيبي الناطق بلسان الاتحاد بالحضور، وبكلمةٍ حولَ الاتّحاد وأهدافه ومنهجه، كانتْ مداخلة مستفيضة لـ د. سامي إدريس حول شعر أحمد فوزي أبو بكر، ثمّ تخلّلت الأمسية قراءاتٌ شعريّة لكلّ مِن : يحيى عطا الله، يوسف إلياس، هشام أبو صلاح، وحسين حجازي، وقراءات للمحتفى به، وفي نهاية اللّقاء قدّم الاتّحاد القطريّ للأدباء الفلسطينيّين الكرمل ومؤسّسة أنصار الضّاد درع تكريم للمحتفى به، وتمّ التقاط الصّور التّذكاريّة.
مداخلة عايدة مغربي : ما أجمل أن نكرّم مبدعينا، وهم لا يزالون ينبضون بالعطاء وبالتميّز والبهاء، والشّاعر أحمد فوزي أبو بكر شاعرٌ ناداه الوطن فلبّى النداء، هو شاعرٌ استحقّ التّكريم والثناء، فأقول: أنتَ شعلةُ نارٍ أضاءتْ صرخة القلوب، وصفعتَ المستحيلَ ليرحلَ مِنَ الدّروب، أنتَ الغريبُ المسافرُ بنبض المطر، تأرجحتَ بين مرايا الدّخان، وعبرتَ سالفَ العصورِ والأزمان، لتنفخَ في الكلمةِ قصيدةَ حياة، أنتَ المحاربُ الثائر العاشق، الّذي يأبى إلّا أن يسافرَ في قطار الشّجن، دموعُكَ صهيلٌ وصوتُكَ حفيفُ زيتونةٍ، تأبى الرّحيلَ عن الجذور، وقلمُكَ ما زالَ يتراقصُ حُرّاً عطِراً في نسيج الزّمن..
مداخلة د. سامي إدريس بعنوان مَن هو أحمد فوزي أبو بكر : أحمد فوزي أبو بكر قامةٌ شعريّةٌ عالية، لها دوْرُها وخطورتُها في حركتِنا الأدبيّةِ المَحلّيّة، شاعرٌ كبيرٌ بالمعنى الّذي أرتئيه، فالشّاعرُ الكبيرُ قد يكونُ كبيراً بالشّهرة، بفعل الظهور الدّائم في وسائل الإعلام، فيصبح نجماً أو نجمةً لا شاعراً، وقد يكون كبيراً بفعل كثرة عددِ قرّائه، ولكن هناك شاعرٌ كبيرٌ لم تقل له أيٌّ من وسائل الإعلام المعهودة: إنك الشّاعر الكبير! والكبيرُ صفة اختلقَها الإعلاميّون، فوصفوا الجواهري بشاعر العرب الأكبر، تمييزاً له عن الكبير، ولكنّي أقول إنَّ أحمد فوزي شاعرٌ لا تلوِّثُ شاعريتَه صفةٌ كالكبير أو غيرها، شاعرٌ فحسب، شاعر حقيقيّ يتصارع مع أدوات التّعبير المتعارف عليها، والعروض السالك ليعلو فوق كلّ ذلك، مُجدّداً مجترحاً باباً جديداً في شعرنا المحليّ، وهذا هو التّميُّز. بعضُ قصائدِه الّتي يتجلّى فيها، تعرفها دون أن يُذكرَ اسمُه عليها، بل إنّي أكاد أجزم أنّ بعض التّعابير الشّعريّة أصبحت مُلكاً للمعجم الشّعريّ لأحمد فوزي.
إنّ المهرجاناتِ والتّكريمات المبتذلة قد تُخرّجُ نجوماً، لكنّها لا تصنعُ شاعراً واحداً، والشّاعرُ الحقيقيّ يكتب ولا يبحث عن منصّة أو شهرة، فيقول في قصيدة تَمُرّين عنّي غريباً: مُعَتَّقٌ../ على شُرْفَةِ البحرِ/ تَمُرّين عنّي غريباً/ أما كُنْتُ النّبيذَ الفَتِيَّ/ نبذتِهِ تحت الظّلالِ العتيقَة/ وسِرّاً لم تكتبيهِ رأيتُهُ ومضاً بِلحظِكِ/ وخَمراً سَكَبْتِهِ فَوقَ قطيفةِ خَصرِك/ مُعَتّقٌ ../ أَحِنُّ لِكأسِكِ/ فلا تَذَريني لعابرةٍ في طريقي
ماذا يريدُ أحمد فوزي مِن الشّعر؟ ولماذا لا يستطيع إلّا أن يكتب؟ هذا التّساؤلُ مأخوذٌ مِن تساؤلِ الأديب الكبير يوسف إدريس الّذي يقول: "أكان لا بدَّ أن تكتبَ يا يوسف؟! هل الشّعر جسرٌ للخلاص الشّخصيّ، ومن ثمّ الخلاص الاجتماعيّ؟ سنرى لاحقاً كيف يتشكّل الأمر في دراسة واسعة تحيط بشعره على مراحل تطوّره، والصّحيح أنه من أجل الحديث عن شعره، أو من أجل كتابةِ دراسةٍ أكاديميّة طالب جامعيّ يريد أن يكتب عن أحمد فوزي، وأنا أهيب مِن هذا المنبر بتناول إنتاج شاعرنا في دراساتٍ أكاديميّةٍ جادّة، فعلى مثل هذه الدّراسة أن تواكب طفولته ونشأته، ومسقط رأسه "سالم" جنة الطبيعة في مرج ابن عامر، وتأثره بوالده الشّاعر المناضل فوزي أبو بكر، وثقافة الشّاعر والتّيّارات الشّعريّة الّتي تأثّر بها. نحن نجهل الكثير عن هذا الجانب، وربّما إذا كتب لنا مذكّراته أضاء جوانب عديدة، وربّما إذا أجرينا معه حواراً سيكون شائقاً أكثر، إلّا أنّني استطعت أن أضع عينيّ على تأثره الكبير بوالده، صاحب الصّوت الجميل الّذي كان يؤذن في القرية، وأنّه كان جار الجامع في سكنه، وقد تجلّى ذلك في شعره، وبالنّسبة لموارده الثّقافيّة فهو يعشق المطوّلات الكلاسيكيّة، ويُسجّلها على هاتفه ويستمع إليها دائماً غير مثل لامية الشنفرى، لامية الطغرائي، صوفيّات ابن الفارض، وغزليّات ابن زيدون، وعينية ابن سينا وغيرها الكثير، فلا يمكنك أن تكون شاعراً وأنت لا تحفظ شيئاً من هذا التّراث الباذخ، وليس الحفظ القسريّ، ولكن العشق الّذي دونه لا تحلو اللّيلة والقعدة والمسامرة والمنادمة.
قصيدة (أبي) الّتي يُكرّسُها لأبيه المناضل (أبي حاتم) المرحوم فوزي أبو بكر، ويمكننا إدراجها تحت باب الفخر الوطنيّ الحديث، قافيتها العذبة الباء تذكّرنا بكثير من القصائد التّراثيّة ومنها: قصيدة مهيار الديلمي، فكأنّ شاعرنا أحمد فوزي يريد التمثل بالقول: أين في الناسِ أبٌ مثلُ أبي؟ وقد جعلها على تفعيلة فاعلاتن الرقيقة، باستعاراتٍ وإبداعاتٍ حديثة، فتوافق المبنى والمعنى والمعجم البارع المنتقى: كُلُّ ما فِيَّ أبِيٌّ وَأَبي/ أسْودُ الرَّايةِ حُرٌّ عَربي/ أبيضُ الرّاحةِ في عيني تَرى/ شمسَ شرقٍ في السَّما لم تُغربِ/ فأبي كان النَّبيلَ الْمُجتبى/ وأبي كان نبيَّ الغَضَبِ/ عربيَّ الرّوحِ كنعانَ الهوى/ صهوةَ الشَّامِ وسيفَ المغربِ/ قَمَريَّ اللّيل يَضوي عتمَةً/ لتهاليل سَمَت في القُبَبِ/ وأبي السَّاكنُ أحزانَ الوَرى/ وأبي في همِّ شعبٍ مُتعبِ/ وأبي دَهْشُ البَساطةِ إنَّما/ هُوَ ذا الحُرُّ سليلُ النُّجُبِ/ وأبي الأرضُ إذا ما زُلزِلَت/ وأبي دُهْمُ السَّماءِ الْمُرعِبِ/ زوَّجَ الثَّورةَ للحَرفِ مدى
للقصيدة أسرارُها، فمَن يُصدّق أنّ كاتبَ هذه القصيدة شاعرنا أحمد، وهي تكاد تتماهى مع الشّنفرى في لاميّته قبل ألف عام وأكثر، وابن الوردي والطغرائي في تناص جميل، وليس التناص ما يفهمُه البعض من الاقتباس، فالتناص تداخلُ النّصوص بعد تذويتها في الحافظة، وشاعرنا يُتقن استخدام التناص استخداماً تلقائيّاً، بعد أن ذوّتَ كلّ هذا التّاريخ، وعايش سِيَرَ هؤلاءِ الشّعراء فيقول:
وَلَستُ بِمحيارٍ إذا شَحَّ مؤنِسي فإنّي لِعقليَ صاحِبٌ وَمُناظِرُ/ وما دامَت السّمراءُ شُغلي وشاغِلي زَهُدْتُ بِخلٍّ يوم نحسي يغادرُ/ أُعاشرُ قومي راغبا كي يطيبَ لي فإن أهملوني فالجميلُ المهاجِرُ/ ولي في مَدادي الأنسُ لي بعض جِنَّتي إذا ضجّتِ الأرواحٌ ضَجَّت مشاعرُ/ نَطَقْتُ فأسهدتُ العذارى بلوعتي وأشهَدتُ إعلاما وَغنَّت حناجِرُ/ ولِستُ بمدّاحٍ تَحَنَّفَ سيّدًا يُغالي بشعرٍ إذ رَخُصْنَ المنابِرُ/ ولا برخيصِ ناظمٍ مُتَغَزِّلٍ يبيعُ الهوى ما تَستحيهِ العواهِرُ/ ولستُ بهجّاءٍ يُدَنّي لِسانَهُ إلى مَيّتٍ قَد أثْخَنَتهُ الخناجِرُ/ لَعَمري إذا ما اختارَكَ الدَّهرُ صاحباً فَكَيفَ بأشباهِ الرّجالِ تُتاجِرُ/ فما قًلَّ خيرُ الناسِ فقرًا وقلَّةً ولا عَظَّمَ الخُلقَ الكريمَ الأياسِرُ
وأحمد فوزي هنا يثير مبادئ يدين بها الشّاعر تعرُّفنا على شخصيّته. أحياناً يروق للشاعر أن يبرز مقدرته الشّعريّة على النظم، وقد تكون هذه المضامين لا تقال إلا على هذه الصّورة التقليديّة الجميلة، فهو قادر بل بارع في نظم القصائد العموديّة، مثلما سنرى براعته في الشّعر الحديث ذي الوحدة الموضوعيّة، وما أكتبه في هذه المداخلة ليس نقداً أكاديميّاً فتملون منّي ومنه، ولكنها نتفٌ أريد أن أمتعكم بها معتمداً على ذائقتي الجماليّة، وتجربتي الشّعريّة ودراساتي المديدة في الشّعر والنقد، ومعرفتي القريبة بالشّاعر المحتفى به، وليله قضيتها أنا وإيّاه على شاطئ يافا حتّى الصّباح، وليعذرني فهذا العام لم استطع دعوته الى مثل هذه السّهرات، لأنّني لم أعد استطيع السّياقة ليلاً لمسافات طويلة، ولا هو يستطيع، ونحتاج لرفيق ثالث.. أقول إنّه ليس نقداً أكاديميّاً، ذلك أنّ النّقد علم جماليّ يُدْرَس ويُدرَّس في الجامعات، وله شهادات عليا وكبيرة، والناقد لا يقلّ إبداعاً عن المبدع نفسه. ربّما يتبادر الى أذهان البعض من كلمة النقد، أَنّها البحث عن أمور سلبيّة في النّصّ، فإذا لم يجد الناقد شيئاً ليقوله، فكأنّما يعجز عن الإطراء والمدح، وإظهار بواطن الجمال والسّحر والإبداع. لقد قال الشّعراء كلّ شيء في كلّ شيء، هكذا يراودني هذا التفكير أحياناً وقد تعارضونني، وما أريد قوله اليوم، إذا لم تكن القصيدة مفزعة تهزّك وتُزلزل أركانك وتدهشك، فهي كلام أكل كأيّ كلام في السّياسة وفي الوطنيّة وفي الحبّ.
نعم قالوا كلّ شيء ولم يقولوا أيّ شيء ممّا سنقوله نحن، إذا قرأنا كثيراً وكتبنا قليلاً، وحذفنا كثيراً ولم ننشر كلّ شيء تنفثه قرائحنا، وهذا مأخذ آخذه على كثير من الشّعراء، لأنّ أمر النّشر أصبح سهلاً، فليس هناك مجلة ومدير التحرير الأدبي الّذي سيقرأ القصيدة، وربّما يلقي بها في هامش الأرشيف، والفيس بوك سهل جدّاً وأنت مستقلّ حُرّ كلّ يوم قصيدة، وأحياناً أرى أنّ بعض الشّعراء لا يتريّثون، وليس لديهم صبر لضبط وزن بيت معيّن، وهم يفضّلون هذه الكلمة على سواها، حتّى وإن كسرت الوزن، وهذا يحدث لدى أحمد فوزي أحياناً، وكأنّه يعتبر هذه القصيدة لن تكون ضمن الدّيوان، ولها هدف آنيّ سريع.
لقد كانت القصيدة التقليديّة القديمة قصيدة معلومات وشرح، واليوم أصبحت قصيدةَ تساؤل وحيرة وجوديّة، ودهشة تتشكّل وتختمر في ذهن شاعرها، وتتّسع لمرايا الإنسان والكون وقدر الإنسان ومأزِق الحياة. يبدأ الشّاعر الجديد بيتها الأول، لكنه يجهل كيف ستتحرّك أبياتها التالية، وبأيّ اتّجاه. ما يعرفه أنّه، هو الشّاعر، ينطوي على لغم من التّساؤلات.
أحمد فوزي ليس شاعر التزام سياسيّ في شعره على الأقلّ، ربّما يكون في مواقفه العامّة قريباً من كلّ ما هو وطنيّ يخدم شعبه، وجمهوره ليس جمهوراً مهرجانيّاً، إنّما هو الجمهور المنتقى، فأنت تشاهد شعراء المهرجان عندنا وشاعراته، وترى عدد اللايكات الهائل، وعبثاً تحاول أن تفتّش عن مُعلّق يقول لماذا أعجبه هذا الشّعر فلا تجد. ويقتبس شاعرنا أحمد فوزي أبو بكر شعراً للشّاعرة السّودانيّة المتألّقة روضة الحاج قولها: وما حاجةُ الدنيا إلى صوت شاعرٍ/ يعيدُ مُعاداً قيلَ قبلاً مُردَّدا/ تَبعتُ بحوراً أَورَدَتني سرابَها/ هرَقتُ يقيني في الطريقِ لها سُدى/ وما الشّعر إلّم يَقتلِعنا لبُرهةٍ../ عن الأرضِ إدهاشاً حضوراً تَمَرُّداً
من قصائده الأخيرة تحت عنوان (كأنّي)، وكأنَّ شاعرَنا يُسجّلُ اعترافاً أخيراً، تَناهى إليه بعد كلّ هذه التّجارب فيقول فيها: كأنّي ضَلَلْتُ الطَّريقَ/ فلا البئرُ بئري/ ولا الماءُ مائي.../ ولا الكَأسُ كَأسي/ هُناكَ أَراهُ يراعَ الحَقيقةِ/ خَلفَ ضبابٍ تجلّى وراءَهُ حِبْرُ المُنى/ هُناكَ أنا.. وللكأسِ روحٌ وبَوْحٌ ونَوْحٌ/ هُناكَ أنا.. ولِلْقَلَمِ مَعنًى ومَبْنًى ومغنى/ هُناكَ أَنا.. وَلَسْتُ أَنا.. كما ها هُنا/ وَلَيسَت حَقيقةُ أَمرِيَ إلّا مَجازاً/ فَعينايَ هُما حَيْرَتي/ ورجلايَ هُما عَثْرتي/ يَدايَ هُما حُفْرَتي/ وَأَنا ما أَنا/ سِوى مُضْغَةٍ للفَنا
(كأنّي) قصيدة آسرة اختمرت في لاوعي الشّاعر وتشكّلت، لتأسرك بمصداقيّتِها ومَضمونِها الفلسفيّ الوجوديّ الحائر، كلّما أعدتَ قراءتَها ثانيةً. العنوان عتبة النصّ، يتأرجح الشّاعر كأنّما يسير في العتمة حائراً قلقاً، بالإضافة الى ما تكشفه القصيدة من هواجس وشحنات وحمولات تأويليّة شتّى، تتبدّى من خلالها ظاهرةٌ شعريّة خاصّة متميّزة، بوصف أحمد فوزي شاعراً متمرّساً له قاموسه ولغته الخاصّة وعروضه الخاصّ، فهو يفضّل التّعبير الّذي جادت به قريحته، ولو كان فيه ميلٌ الى النثريّة، كما له رؤاه ومراياه الخاصّة. إنّ هدف هذه القصيدة هو الخوض في المعترك الغامض والملتبس لقدَر الانسان، ولمأزق الحياة الّذي لا يوفّر إجابة، فسحر الاستعارات العالية في قوله: يراعَ الحقيقيّةِ، وحبر المنى، ولِلْقَلَمِ مَعنًى ومَبْنًى ومغنى.. تقف أمام هذه القصيدة العذبة، وتغوص في أعماقها في قراءة ثانية وثالثة، وتعود أدراجك مشبعاً بملكوت الشّعر مُسلّماً، آمنتُ بك أيّها الشّعر رافعاً صوت الذات.. "وأنا ما أنا سوى مُضغةٍ للفنا".
وفي قصيدة نورانيّة عالية يقول: قَمرٌ يذوبُ بِخمرتي ويصير بعدَ السُّكرِ أفعى/ في كُلِّ ثوبٍ صورِةٌ تسمو كنارٍ حينَ تسعى/ صارتْ إذا عصفَ الجموحُ غزالةً في الصَّدرِ ترعى/ وترِفُّ فوقي رايةً قد أمعنَت بالعَتمِ لمعا/ تشتدُّ مثل الموجِ دفعاً زادها الملّاحُ قمعا...
ويظهر التّناص الدينيّ واضحاً في أفعى ويسعى (فإذا هي حيَّةٌ تسعى)، ناهيك عن الصّورة الشّعريّة في كلّ بيت، والتّناص أيضاً في وثيقة قريش، ومقاطعة المسلمين، والأرضة الّتي أكلت الوثيقة المعلقة في الكعبة، وهذا يدلّ على ثقافة الشّاعر، فمن لا يمتلك مثل هذه الثقافة، لا يستطيع الولوج الى أعماق القصيدة وفهمها: إنّ في عينيْك حُزناً ودموعاً مُتعَبَة/ سَفَراً لا ينتهي/ وتراويد عروسٍ للفنا مغتَرِبَة/ ... / عربيّاً جاسَ في إيوان كسرى/ لبوةً تحنو على ظبيٍ يتيمٍ/ في الفلا ذي مسغَبَة/ إنَّ في عينيكَ عينَيْ أَرَضَة/ قرضَت صكَّ قريشٍ/ غير "بسم الله"/ لم تبقِ عيونُ الأرَضَة
* كتب د. عمر عتيق دراسة عميقة حول التناص في ديوان من سرق السماء يمكنكم العودة إليها
مداخلة علي هيبي الناطق الرسميّ للاتّحاد القطريّ للأدباء الفلسطينيّين- الكرمل : الاتّحاد القطريّ– الكرمل ومؤسّسة محمود درويش– الجليل، شوكة في حلق قانون القوميّة وقانون الولاء للثقافة الصهيونيّة. نرحّب بكم جميعاً باسمي وممثّلاً للاتّحاد القطريّ للأدباء الفلسطينيّين– الكرمل ومؤسسة محمود درويش للثقافة والإبداع– الجليل، وأنتهز هذه الفرصة لتقديم جزيل شكرنا لهذه المؤسّسة ولمديرها الكاتب عصام خوري، لأنّها فتحت مصراعيْها للاتّحاد القطريّ للأدباء الفلسطينيّين، وكانت لنا البيت والمقرّ المؤقّت الذي يحتضن جزءاً كبيراً من اجتماعاتنا الدوريّة، وجزءاً من نشاطاتِنا الثقافيّةِ والأدبيّة، مع أنّ البحث الدؤوب عن مقرٍّ دائمٍ للاتّحاد القطريّ، ممّا يشغل بالنا دائماً، ومستمرّ.
هذه المؤسّسة التي تأسّست بعد وفاة الشاعر الفلسطينيّ الكبير محمود درويش وحملت اسمه، وفاء منّا لشعره ونضاله ومسيرته الإبداعيّة والسياسيّة على مدى عقود من الزمان. لقد أخذت المؤسّسة هذه، والتي أتشرّف بكوني عضواً في إدارتها، أخذت على عاتقها نشر التراث الدرويشيّ كافّة ونشر الثقافة الوطنيّة والأدب الفلسطينيّ للحفاظ على الذاكرة والهويّة وتعزيز الانتماء الوطنيّ والإنسانيّ.
أمّا اتّحادنا، الاتّحاد القطريّ للأدباء الفلسطينيّين– الكرمل، فقد تأسّس منذ حزيران سنة 2014، وكان تأسيسه لضرورة وطنيّة وثقافيّة وحضاريّة، وكان تأسيسه عبارة عن حاجة ماسّة لملء فراغ أدبيّ وثقافيّ، حيث خلت الساحة الأدبيّة من النشاط والحراك، وأصبح الطمس والتعتيم والتغييب لثقافتنا ولمعالمنا الوطنيّة والحضاريّة هو السائد في هذه البلاد، وأصبح النيل من لغتنا مكانة وهويّة الشغل الشاغل لهذه الحكومة المتطرّفة، وعبر القوانين العنصريّة تارة، وبالممارسات المتطرّفة الرسميّة وغير الرسميّة طوراً. فقانون القوميّة الذي يقلّل من مكانة اللغة العربيّة وقانون الولاء الثقافيّ للفكر الصهيونيّ ولأسس قيام الدولة العنصريّة، والتضييق على الفنّ والأدب الإنسانيّ والاعتداء على المعالم الوطنيّة والمعابد الدينيّة وغيرها، وإفراغ شخصيّتنا من مكوّناتها الثقافيّة العربيّة ومضامينها الحضاريّة الإنسانيّة ونشر العدميّة الثقافيّة لدى أبناء شعبنا، وبخاصّة الطلّاب والأجيال الشابّة، وجعلهم يتربّون على الخدمة المدنيّة التي تقود في نهاية المطاف للارتباط بأجهزة الأمن المختلفة التي تقمع شعبنا بالاحتلال والاستيطان يمارس ضدّ شعبنا التمييز العنصريّ وعدم القبول بمبدأ المساواة. وآخر ما أفرزته هذه العقليّة والممارسة إزالة النصب التذكاريّ للكاتب الفلسطينيّ غسّان كنفاني، ابن عكّا الأصيل والحقيقيّ، ومن اقتلع كنفاني إنساناً ونصباً تذكاريّاً يسكن في عكّا، ولكنّه بالتأكيد ليس أصيلاً ولا حقيقيّاً منها.
لقد جاء تأسيس اتّحادنا كضرورة وطنيّة ملحّة، ينشّط الحركة الثقافيّة ويصون الهويّة الوطنيّة والشخصيّة العربيّة، ويرفع من مستوى الحراك الأدبيّ عبر تنظيم الأدباء والحركة الأدبيّة والعمل على اتّساع رقعة الفعل التثقيفيّ، ليشمل كافّة الشرائح ويدرأ عن أبنائنا وطلّابنا في المدارس خطر العدميّة والميوعة وضياع الهويّة وتشويه الانتماء. ولذلك كان نشاطنا في المدارس مكثّفاً، فقد زرنا عشرات المدارس من الرملة العربيّة إلى وادي الحمام العربيّ، وجاء تكثيفنا للندوات والأمسيات والمشاركات الثقافيّة سادّاً فراغاً كبيراً، وأصدرنا "شذى الكرمل" هذه الفصليّة التي رأت النور في زمن شحّت بل انعدمت المجلّات التي تنقل الأدب الفلسطينيّ المحلّيّ والثقافة الوطنيّة الملتزمة، وقد فتحت صفحاتها أمام الأقلام من شعبنا الفلسطينيّ وعالمنا العربيّ، وإيماناً بدورها لم يقتصر كتّابها على أعضاء الاتّحاد، ومن هذا الباب نسعى دائماً إلى تطويرها ورفع مستواها قلباً وقالباً.
المؤسّسة والاتّحاد يسعيان دائماً لتنفيذ هذه البرامج والأمسيات، ونعود ونكرّر أنّنا مستعدّون للتعاون مع أيّ طرف أو منتدى محليّ أو مدرسة أو هيئة أو جمعيّة أو مؤسّسة أو مجلس محلّيّ، لتنفيذ برامج وفعاليّات ثقافيّة وأدبيّة وفنيّة هادفة وملتزمة، وندعو أيّ عضو من الاتّحاد أن يبادر إلى ندوة له في بلده حتّى يتسنّى للشرائح الشعبيّة في القرى والمدن التعرّف عليه وعلى أدبه وإنتاجه وعلينا وعلى نشاطاتنا وفعاليّاتنا.
منذ شهور ندأب على إقامة يوم دراسيّ شامل، والآن يُعمل على تفاصيله وتنفيذه، بمبادرة وتنظيم وإشراف عضو الاتّحاد بروفيسور إبراهيم طه مدرّس الأدب العربيّ في جامعة حيفا.
ومن باب الاهتمام بأدبائنا والتعريف بهم ورعايتهم نرحّب في هذه الأمسية بالشاعر أحمد فوزي أبو بكر، ابن قرية سالم الواقعة في المرج ما بين العفّولة وجنين، نرحّب به وبإبداعاته في مجال الشعر، والتي ستكون محور هذه الأمسية الجميلة بحضوركم ومشاركتكم، كما نرحّب بجمعيّة أنصار الضاد من أمّ الفحم وبمديرها الأخ محمّد عدنان بركات ونحيّيهم على دعمهم المادّيّ والمعنويّ لشاعرنا أحمد ولكلّ المبدعين الواعدين ولمسيرة الإبداع عامّة في وطننا هذا، الذي لا وطن لنا سواه. كما نرحّب بالأخوة من الضفّة الغربيّة للوطن الشاعرين: الشاعر المبدع حسين حجازي والشاعر المبدع هشام أبو صلاح. ولا أنسى صاحب المداخلة الرئيسيّة لهذه الأمسية الدكتور والأديب المتواضع سامي إدريس من مدينة الطيّبة. وهذه أمسية من عدّة أمسيات أنجزها الاتّحاد القطريّ، وستكون الأمسيات تباعاً وشهريّاً.
هذه هي مؤسّستنا، هذا هو اتّحادنا سيبقيان سبّاقيْن للحضور في المشهد الثقافيّ والأدبيّ، محرّكيْن للنشاط الوطنيّ والأدبيّ ومستعدّيْن للعمل الدؤوب لما فيه خير شعبنا وتعزيز انتمائه الوطنيّ والحضاريّ بالحفاظ على لغتنا العربيّة وحضارتنا التي لن تغيب شموسها. وسيبقيان شوكة في حلق الفكر الصهيونيّ والرجعيّ والظلاميّ، وسيقفان بالمرصاد ضدّ كلّ من يحاول النيل من حقوقنا ووجودنا وحريّاتنا وتميّزنا وإرادتنا العازمة على التطوّر الدائم والسعي الدؤوب لأخذ الحقوق وليس إلى استجدائها.