الارشيف / ثقافة و فن

حوار حول معايير ترتيب الدول

ينتشر في العالم الكثير من المعايير الاقتصادية التي تستخدم في ترتيب وتصنيف الدول ليتابعها الناس بهدف التعرف على اقتصاديات الدول سواء للمعرفة العامة، أو لعمل البحوث والدراسات الأكاديمية والتطبيقية أو للاستثمار في تلك الدول والتعامل معها بنشاط اقتصادي.

تتنوع هذه المعايير التي تكون عادة سلسلة زمانية لمتغير واحد أو لعدة متغيرات تدمج لإنشاء معيار موحد، فبعض المعايير يستخدم معدلات النمو الاقتصادية السنوية للوقوف على حركة النشاط الاقتصادي في البلد على مدى فترات من الزمن لمعرفة مستوى الأداء الكلي والتوجهات وأثر المتغيرات العالمية والإقليمية والمحلية.

قد يستخدم البعض معيار حجم النشاط الاقتصادي حسب الناتج المحلي الإجمالي للوقوف على حجم السوق الكلي في بلد ما مقارنة مع بلدان أخرى، فعلى سبيل المثال لم تكن الصين بين الدول العشر الأول في العالم من حيث حجم الاقتصاد عام 2008، وفي عام 2022 أصبح ترتيبها الثانية في العالم بعد الولايات المتحدة ومن المتوقع أن تصبح الأولى عالمياً من حيث حجم الاقتصاد.

وبينما تعتبر هذه المعلومة هامة من عدة نواحي، قد يرغب الباحث أو المراقب أن يقف على متوسط دخل الفرد وهنا يتم قسمة الناتج المحلي الإجمالي على عدد السكان في دول المقارنة لتختلف النتائج فنجد على سبيل المثال أن لوكسمبورغ ذات الناتج المحلي الإجمالي الصغير نسبياً (85,51 مليون دولار) تصنف على أنها الأعلى من حيث دخل الفرد ( الناتج المحلي الإجمالي مقسوم على عدد السكان ) الذي وصل إلى 138 دولار للفرد في عام 2022 حسب تعادل القدرة الشرائية.

وإذا أردنا مقارنة القوة الشرائية للدخل أو الإنفاق بين الدول تقارن معدلات الإنفاق بمعدل الإنفاق في الولايات المتحدة كنقطة أساس، فترتفع القيمة الشرائية أو تقل بالمقارنة. وقد يستخدم البعض مؤشر "بيج ماك" (تكلفة شراء شطيرة بيج ماك برجر في شبكة مطاعم ماكدونالدز) الذي استحدثته وتستخدمه مجلة الإيكونوميست منذ 1986 لقياس ما إذا كانت أسعار الصرف في السوق لعملات البلدان المختلفة (78 دولة) مبالغ فيها أو مقومة بأقل من قيمتها. والطريف في هذا أن دقة الإنتاج لهذه الشطيرة تضمن إنتاجها بذات المدخلات والمخرجات في جميع الدول كمؤشر للأسعار في البلدان المختلفة، وحسب المؤشر فإن أغلى دولة بين 78 دولة مصنفة هي سويسرا (سعر شطيرة بيج ماك 6,71 دولار)، وأقلها غلاء هي فنزويلا (1,76 دولار).

يراقب آخرون معدلات تدفق الاستثمارات بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي مما يشير بشكل غير مباشر إلى سهولة ممارسة الأعمال وجاذبية بلد ما بالمقارنة مع بلدان أخرى وقدرة البلد أو طاقتها الإستيعابية للاستثمارات واستقرارها على مدى سنوات حيث أن عامل الاستقرار التشريعي ومؤسسية القرارات (وليس أحاديتها) هما يعتبران هامين جداً لجذب الاستثمارات. وقد يرغب الباحث أن يطلع على تقرير ممارسة الأعمال مباشرة لمعرفة سهولة ممارسة الأعمال في بلد ما بالمقارنة مع البلدان الأخرى وربما يدعم قراره باستخدام معايير التنافسية ومعايير الحرية الاقتصادية المختلفة (يوجد العديد من معايير الحرية الاقتصادية تختلف في المدخلات والنتائج). وجميع هذه المعايير تقوم على مؤشرات اقتصادية مركبة وطرق قياسية وإحصائية بعضها موضوعي والبعض الآخر غير موضوعي (يتم عادةً من خلال إجراء استقصاء آراء مجموعات من الناس في البلدان المختلفة).

ولقد واجه معيار حجم الناتج المحلي الإجمالي ونموه الكثير من الانتقادات كمعيار للرفاه في بلد ما يحسب الناتج المحلي الإجمالي بعدة طرق منها:

1.  مجموع الإنفاق الاستهلاكي والإنفاق الاستثماري والإنفاق الحكومي وصافي الصادرات (الصادرات مطروح منها الواردات) في عام واحد.

2.  وقد يحسب على أساس مجموع ما ينتج في البلد من سلع وخدمات مطروحاً منه قيمة السلع والخدمات التي استخدمت في عمليات الإنتاج أي أنه مجموع الأجور والأرباح في ذلك العام أو ما يسمى بالقيمة المضافة.

3.  كما قد يحسب من خلال مجموع الدخل الذي تحصلت عليه الموارد الاقتصادية (المواد الخام، رأس المال، العمالة، ريادة الأعمال) في عام واحد. وهي سبل حسابية يجب أن تؤدي إلى معيار واحد وهو (الناتج المحلي الإجمالي) حيث أن النظرية الاقتصادية تفترض تساوي الاستهلاك والدخل والإنتاج.

لا يعتقد الكثير من الاقتصاديين بقدرة معيار حجم الناتج المحلي الإجمالي أو دخل الفرد على قياس مدى الرفاهية في بلد ما ومقارنتها مع البلدان الأخرى فمثلاً، قد لا يقيس نمو الناتج المحلي الإجمالي وحجمه مدى الابتكار في البلد كما أنه لا يدل على نمو حجم الاقتصاد الحقيقي إذا ما اسْتخدم الباحث حجم الاقتصاد الأسمي؛ كما لا يقيس هذا المعيار ما يحدث من تلوث في البيئة؛ أو مدى عدالة توزيع الدخل في البلد؛ أو حجم الاقتصاد غير المنظم (يطلق مصطلح الاقتصاد غير المنظم على الأنشطة الاقتصادية التي لا تخضع للضرائب ولا تراقب من قبل الحكومة فلا تدخل ضمن الناتج القومي الإجمالي)؛ وحجم أو ازدياد رأس المال البشري؛ أو تنوع الاقتصاد ومدى تعقيد المنتجات؛ كما أنه لا يُمكن للمتابع له من التوقع والتّيقن من المخاطر المستقبلية؛ أو أن يقيس مدى السعادة في البلد؛ أو تغلغل الممارسات الاحتكارية؛ وغيرها الكثير من الأمور.

ورغم كل ذلك يوفر الناتج المحلي الإجمالي رقماً معيارياً قياسياً للإشارة إلى الحالة الاقتصادية للبلد، وهو ضروري لوضع السياسات الاقتصادية والتحليل الاقتصادي الكلي، كما أنه يتوافق مع المعايير والمقاييس الدولية للإنتاج، ويستخدم الناتج المحلي في غالب الأحيان مبادئ محاسبية دولية راسخة. لذلك ورغم ظهور معايير جديدة مثل تقرير السعادة العالمي، والذي يقيس مدى السعادة في كل دول العالم والذي انتجته دولة (بوتان)، فإن مقياس الناتج المحلي الإجمالي وهو المرجع الأول والأهم.

بالنتيجة، للباحث أن يختار أحد هذه المعايير، أو مجموعة منها، أو غيرها مما لم أذكره هنا، كل حسب احتياجاته سواء كان منتجاً أو مستهلكاً أو مستثمراً أو واضع للسياسات. لاحظ أن مهمة الأخير تتطلب أن يعتمد على خليط من الأرقام والمعايير المقارنة، والنهج التحليلي، والحكمة والمنطق السليم لمعرفة من سيتأثر من المجموعات في البلد أو خارجه، وأين سيكون الأثر أعمق وأكثر ديمومة قبل اتخاذ القرار الاقتصادي.

 

المجلة غير مسؤولة عن الآراء و الاتجاهات الواردة في المقالات المنشورة

 

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى