إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن
إنَّ الواقعية السِّحْرية لَيْسَتْ تَيَّاراً أدبيّاً يَجْمَع بَين الواقعِ والخَيالِ ضِمْن إطار إبداعي فَحَسْب، بَلْ هِيَ فلسفة إنسانية مُتكاملة تَرْمي إلى اكتشاف العناصر الغامضة في الواقع المُعاش، والانقلابِ عليه، وإعادة إنتاجه أفقيّاً وعَمُوديّاً، مِن أجل تَحويلِ العناصر الرُّوتينية إلى رُموز عجائبية، ونَقْلِ الأنساقِ الحياتية مِن الرَّتابة الخاضعة للزمنِ والمكانِ إلى السِّحْرِ السائلِ في التراكيبِ اللغوية العابرةِ للتَّجنيسِ والحُدودِ. وبالتالي، تَصِير الأبجديةُ زمناً مُتَدَفِّقاً ومَكاناً غامضاً، يَلِد نَفْسَه بِنَفْسِه، ويتكاثر في آلِيَّاتِ الفِعْلِ الإبداعي، وأدواتِ التَّعبير الفَنِّي، فتنتقل الاستعاراتُ البصرية مِن المَلَلِ المَحصورِ في النظام الواقعي المادي الاستهلاكي إلى الدَّهشةِ الباعثةِ للأحلامِ المَكبوتةِ والذكرياتِ المَنسيَّةِ والرَّغَبَاتِ المَقموعة، فَيُصبح الواقعُ الساكنُ وقائعَ عجائبية مُتحركة شكلاً ومَضموناً، ويُصبح الإنسانُ تاريخاً لانبعاثِ الحَيَوَاتِ السِّرِّيةِ مِن أعماقه السحيقة، ونُقْطَةَ الارتكازِ في عملية الاندماج بين الماضي والحاضرِ والمُستقبَلِ. وإذا صَارَ الإنسانُ تاريخاً مُتَوَاصِلاً بلا قطيعة معرفية، فإنَّ الوَعْيَ الإنساني سَينتقل مِن التَّكرار القاتلِ لِعُذوبةِ الرُّوحِ وتَدَفُّقِ الشُّعُورِ إلى التَّوليدِ الرُّوحي المُستمر للأحداثِ والوقائعِ. وإذا صارَ الواقعُ سِحْراً دائماً بلا انكسار شُعُوري، فإنَّ بُنية الحضارة ستنتقل مِن كَينونةِ الزَّمَنِ المُستعارِ إلى كِيَانِ الحُلْمِ المُستعادِ.
إذا كانَ الإنسانُ هُوَ الساحرَ الذي يُنَقِّب عَن وجهه بَيْن الأقنعةِ، ويَبحَث عَن الأحلامِ الوَرديةِ في الواقعِ الجريحِ، فإنَّ الواقعية السِّحرية هي انقلابُ السِّحْرِ على الساحر، وهذا الانقلابُ لا يَكُون دمويّاً ولا مُتَوَحِّشاً، لأنَّ الهدفَ مِنْه هُوَ إحلالُ الحِبْرِ مَكانَ الدَّمِ، وتَتويجُ القَلَمِ سَيْفاً على الأوهامِ لا سَيْفاً على الرِّقَابِ، وقَتْلُ الوَحْشِ داخل الإنسان، ولَيْسَ قتل الإنسان. وبالتالي، يُصبح العملُ الأدبي عمليةَ حَفْرٍ في الأحلامِ الورديةِ والحُلُولِ السِّحْريةِ في رُوحِ الزمنِ وجَسَدِ المكانِ، ولَيْسَ حاجزاً عسكريّاً بَين الحُلْمِ والكابوسِ، أوْ نُقْطَة تَفتيش عسكرية في مَسَارِ الفِعْلِ الاجتماعي المُنْدَمِج معَ التجربة الإبداعية الإنسانية. لذلك ، كانت الثقافةُ الحقيقيةُ هِيَ زَمَنَ الخَلاصِ لا زَمَنَ الرَّصَاصِ.
في أحيان كثيرة، يَكُون الواقعُ المُعاشُ أكثرَ غُموضاً مِن السِّحْرِ، وأكثرَ عجائبيةً مِن الخَيَالِ، وهذا يدلُّ على أنَّ الحياةَ اليومية كَنْزٌ مِن الأسرار، يَحتاج إلى بَحْثٍ دائم، وتَنقيبٍ مُستمِر. واللغةُ هي أداةُ الحَفْرِ في جَوْهَرِ الواقعِ، وحقيقةِ الحياةِ، وصُلْبِ المَوضوع. وبِدُون اللغةِ سَيَكُون الإنسانُ شَبَحاً هُلامِيّاً بلا خريطة ولا بُوصلة، يُشبِه الذاهبَ إلى المَعركةِ بِلا سِلاح. واللغةُ هي مِحْوَرُ التوازن بين السِّحْرِ والساحرِ. وكُلُّ لُغَةٍ تُولَد خارجَ رَحِمِ الدَّهْشَةِ والإبهارِ هِيَ تراكيب مِيكانيكية بِلا رُوح، وكُلُّ وَاقِعٍ يُولَد خارجَ نِطاق الفِعْل الاجتماعي الإبداعي هُوَ دَوَرَان في حَلْقَةٍ مُفْرَغَة. وإذا اجتمعَ الواقعُ واللغةُ في بُنيةِ الوَعْي المَنطقي المُتَسَلْسِل، صارَ الأدبُ جَسَداً للخَيَالِ في هُوِيَّةِ المُجتمع، وصارت الثقافةُ تَجسيداً للمَعرفةِ الإنسانية في رِحلة البحث عن المَعنى.
إنَّ السِّحْرَ اللغوي لَيْسَ حُقْنَةً مُخَدِّرَةً في جَسَدِ الواقع، وإنَّما هُوَ إعادةُ إنتاج مَعرفي للتاريخِ والجُغرافيا والذكرياتِ، بِحَيث تُصبح نَقْداً عقلانيّاً لتفاصيلِ المُجتمع الحَيِّ والحُرِّ، وكَشْفاً للصِّرَاعَاتِ المُستترة في أعماقِ النَّفْسِ الإنسانية. والسِّحْرُ اللغوي هُوَ القُوَّةُ الدافعة للتَّعبير الفَنِّي في الأدبِ والثقافةِ، الذي يَعمل على عَقْلَنَةِ الأُسطورةِ وأنْسَنَتِهَا ( جَعْلِها عَقلانيةً وإنسانية ) مِن أجل نَقْلِ الزمنِ مِن طَبيعةِ الواقعِ إلى رمزية الوُجودِ، ونَقْلِ المَكانِ مِن زاوية الرُّؤيةِ إلى رُؤيةِ الحُلْمِ.
والتَّعبيرُ الفَنِّي في الأدبِ والثقافةِ يُمَثِّل صِياغةً جَديدةً لإرادةِ المَعرفةِ، بِحَيث تُصبح طريقةً لتحليل الدَّورِ الوظيفي للإنسانِ في الحياة، وتَرتيبِ تفاصيل الحياة ضِمْن نظام تَرَاتُبي مِن التجارب الشُّعوريةِ والأدبيةِ، يَسْتَنْبِط العناصرَ الخياليةَ المُتشظية مِن الواقع المادي المُنكمِش على نَفْسِه بِفِعْلِ ضَغط النظامِ الاستهلاكي. وبالتالي، تُصبح الواقعيةُ السِّحرية عملية إحلال لتجربةِ الكِتابة الرُّوحية الإبداعية مَكَانَ النَّسَقِ الماديِّ الوظيفي الذي يَسْحَق رُوحَ الإنسانِ، ويُعيد هَندسةَ مَشاعرِه وأحاسيسِه بشكل مِيكانيكي آلِيٍّ، بِحَيث يُصبح الإنسانُ سِلْعَةً ضِمْن قانونِ العَرْضِ والطلبِ، وشَيْئاً مِن الأشياءِ المَسحوقةِ بِلا هُوية مَعرفية.
وأهميةُ الواقعيةِ السِّحْرية تَكْمُن في أمْرَيْن: تَفجير الطاقةِ الرمزية في اللغة،وتَجديد شَبابِ اللغةِ. وهاتان العَمليتان تَحْدُثان بشكل تَزَامُني، مِمَّا يُؤَدِّي إلى احتراقِ المُبْدِعِ ذاتيّاً كَي يُضِيءَ العناصرَ المُحيطة به. وعمليةُ الاحتراق الذاتي تَشْمَل الأحلامَ والذكريات، وتُولِّد طاقةً معرفية قادرة على جمع شظايا قلب المُبْدِعِ. وهكذا، ينبعث المُبْدِعُ مِن احتراقِه، ويُولَد مِن مَوْتِه. وفي هذه الرحلة، ينبغي أن يَجِد المُبْدِعُ نَفْسَه خارج نطاق الأقنعة، وخارج نُفُوذ المرايا، لأنَّ التَّقَمُّصَ والتقليدَ يَقتلان رُوحَ الإبداعِ، ويُحوِّلان النَّصَّ إلى نُسخة مُقَلَّدَة ومُزَوَّرَة، وقيمةُ المُبْدِعِ تَتَجَلَّى في صَوْتِه الخاص المُتَفَرِّد. وإذا تَحَوَّلَ إلى صَدى سَيَفْقِد سُلطته الاعتبارية، ويَفْقِد النَّصُّ مَركزيته الأدبيةَ.
والواقعيةُ السِّحْريةُ لَيْسَتْ عمليةَ رَش للسُّكَّرِ على مَوْتِ الواقع، وإنَّما هي منظومة لِجَعْلِ الأحلامِ مَرئيةً في مَرايا الحياةِ اليوميةِ، وخرائطِ النَّفْسِ الإنسانية، مِن أجْلِ تَحريرِ التجاربِ الإبداعية مِن سَوداويةِ الواقعِ، وتحقيقِ التوازنِ بَين الألَمِ والأمَلِ.
المجلة غير مسؤولة عن الآراء و الاتجاهات الواردة في المقالات المنشورة