ثقافة و فن

عوالم قصيدة النثر

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

 

قَصيدةُ النثرِ لَيْسَتْ فَوضى لُغويةً بلا وزن ولا قافية، وإنَّما هي تَكثيفٌ وُجودي للمَعنى الشِّعْرِي على الصعيدَيْن النَّفْسِي والاجتماعي، وتَجميعٌ لِشَظايا مُوسيقى اللغةِ في صُوَرٍ فَنِّية عابرةٍ للتَّجنيس، وكاسرةٍ للقوالبِ الجاهزةِ والأنماطِ المُعَدَّة مُسْبَقاً، وتَوليدٌ للإيقاعِ الإبداعي في داخلِ الألفاظِ الوَهَّاجَةِ والتعابيرِ المُدْهِشَةِ. وهذه المَنظومةُ المُعَقَّدَةُ لُغَوِيّاً، والمُرَكَّبَةُ شِعْرِيّاً، تَهْدِف إلى اكتشافِ العناصر الفكرية المَقموعة في العلاقات الاجتماعية، واستخراجِ القِيَمِ المَعرفية المَنْسِيَّة في التجارب الحياتية، وابتكارِ أنظمة شِعْرية مُتَحَرِّرَة مِنَ قُيود المَواضيع المُسْتَهْلَكَةِ، والخَصائصِ اللغوية الشَّكلية المُبْتَذَلَة التي فَقَدَتْ تأثيرَها بسبب كَثرة استعمالها.

 وقَصيدةُ النثرِ انعكاسٌ لِرُؤيةِ الشاعرِ للوُجودِ شَكْلاً ومَضموناً، وإعادةُ صِياغةٍ للقوانين الحاكمة على مصادر الإلهام الشِّعْري، بِحَيْث تُصبح مُوسيقى اللغةِ نُقْطَةَ التوازنِ بَيْنَ وُضُوحِ الألفاظِ المُتدفقةِ أفقيّاً وعموديّاً، وبَيْنَ غُموضِ الصُّوَرِ الفَنِّيةِ المُتَفَجِّرَة وَعْياً وإدراكاً، وتُصبح العلاقةُ بَيْنَ الألفاظِ والمَعَاني تَجديداً مُستمرّاً للعلاقةِ بَيْنَ الشاعرِ ونَفْسِه مِن جِهة، وبَيْن الشاعرِ ونَصِّهِ مِن جِهةٍ أُخْرَى، باعتبار أنَّ الشاعرَ هُوَ الرُّوحُ الساكنةُ في جَسَدِ اللغةِ، والتَّجسيدُ الحقيقي لِرُوحِ اللغةِ في جَسَدِ المُجتمع.

وإذا كانَ الإبداعُ الشِّعْرِي سُلطةً مركزية قائمة بذاتها، فَإنَّ قصيدةَ النثر هُوِيَّةٌ رمزية مُستقلة بِنَفْسِهَا، واندماجُ السُّلطةِ معَ الهُوِيَّةِ في النَّسَقِ الشِّعْرِي الذي يَتَوَالَد مِن نَفْسِه يَجْعَل زَمَنَ المَشاعرِ والأحاسيسِ كائناً حَيّاً قادراً على استلهامِ التُّراثِ وتجاوزِه، ويَجْعَل رُوحَ اللغةِ كِيَاناً حُرّاً قادراً على صَهْرِ المَاضِي والحاضرِ في بَوْتَقَةِ المُسْتَقْبَلِ. وهذا يَعْنِي انفتاحَ الزَّمَنِ في العلاقاتِ اللغويةِ بشكل مُطْلَق، مِمَّا يُولِّد وَعْياً شِعْرِيّاً خَاصّاً بِتَحليلِ عَناصرِ الواقعِ، وتَغييرِ زَوَايا الرُّؤيةِ لتفاصيل الحياة.

وكُلَّمَا وَسَّعَت اللغةُ حُدودَ الزمنِ دَاخِلَ الهُوِيَّةِ الرَّمزيةِ والتُّراثِ المَعرفيِّ والذاتِ الإنسانية، اتَّسَعَ الوَعْيُ الشِّعْري للتجاربِ الحياتية إنسانيّاً وإبداعيّاً، وهذا الاتِّسَاعُ سَيُصبح معَ مُرور الوقت تاريخاً جديداً لِرُوحِ اللغةِ في جَسَدِ المُجتمع، ومُتَجَدِّداً في مُوسيقى اللغةِ، ومُسْتَقِرّاً في مَصادرِ الإلهامِ الشِّعْرِيِّ، ومُكْتَفِياً بِذاته مَعْنىً ومَبْنىً. وإذا كانَ التاريخُ لا يَنفصل عَن الوَعْي، فَإنَّ اللغة لا تَنفصل عَن الحُلْمِ. وهذا الترابطُ بَين هذه التراكيب الوُجودية سَيُكَوِّن فَضَاءاتٍ جديدة لقصيدة النثر.

إنَّ الوَعْي الذي تُولِّده قصيدةُ النثرِ يُمثِّل مَنظومةً مِن الأسئلة الوجودية التي يَتِمُّ طَرْحُها على إفرازاتِ الماضي والحاضرِ معاً، مِن أجْلِ حماية المَعنى الشِّعْري مِنَ القَطيعةِ بَيْنَ الروابطِ النَّفْسِيَّةِ والعَلاقاتِ الاجتماعية، وهذا مِن شأنه تَكريسُ الصُّوَرِ الفَنِّيةِ المُدْهِشَةِ في الماضي الذي لا يَمْضِي، والحاضرِ الواقعِ تحت ضغط النظام الاستهلاكي، مِمَّا يُؤَدِّي إلى دَمْجِ ثَورةِ الشِّعْرِ في كَينونةِ الزَّمَنِ، وتَحويلِ البُنى الاجتماعية المادية إلى هياكل شِعْرِيَّة مَعنوية، تَمتلك القُدرةَ على التواصل معَ الأجناس الأدبية كُلِّهَا، باعتبار أن الأدبَ والزمنَ نظامان مَفتوحان عَلى كَافَّةِ الأشكالِ والاحتمالاتِ.

وقَصيدةُ النثر لَيْسَتْ تاريخاً قائماً بذاته فَحَسْب، بَلْ هِيَ أيضاً جُغرافيا رمزية تُوظِّف الخِطَابَ التاريخي في فَلسفةِ اللغةِ التي تَؤُول إلى فَن تَعبيري عَن القِيمةِ الإنسانيةِ للحياةِ، والبُنيةِ الشِّعْرِيَّةِ الكامنةِ في عَناصرِ الوُجودِ وأنسجةِ المُجتمعِ. والترابطُ الوثيقُ بَيْنَ فَلسفةِ اللغةِ والفَنِّ التَّعبيريِّ يُؤَدِّي إلى صِناعةِ أساليب لُغَوية جديدة تُعيد بِنَاءَ الوظيفةِ الشِّعْريةِ على كَينونةِ الزَّمَنِ، وتُعيد صِياغةَ العَلاقاتِ الاجتماعية إنسانيّاً ورمزيّاً. وهذه الإعادةُ المُزْدَوَجَةُ تُسَاهِم في إدخالِ مَصادرِ المَعرفةِ في التجاربِ الحياتية، وإخراجِ التياراتِ الشِّعْريةِ مِن إطارِ تَقديسِ الماضي والجُمودِ على التُّراث، مِمَّا يَقُود إلى إعادةِ تعريفِ وَظيفةِ قَصيدةِ النثر باعتبارها انقلاباً لُغَوِيّاً على القوالبِ الجاهزةِ والأشكالِ المُسْتَهْلَكَةِ. وكُلُّ عمليةِ إعادة تَعريف على المُسْتَوَيَيْن الشِّعْري واللغوي هِيَ بالضَّرورةِ تَجديدٌ في تِقْنِيَّات الكِتابةِ، وتَوسيعٌ لِحُدودِ الأجناسِ الأدبية، حَتَّى تَشْمَل الأفكارَ المَقموعةَ، والأحلامَ المَكبوتةَ، والأزمنةَ المَنْسِيَّة، والأشياءَ المَسكوت عنها.

إنَّ الإلهامَ الشِّعْري داخلَ قَصيدةِ النثرِ لَيْسَ انتظاراً لِمَا لا يَأتي، بَلْ هُوَ صِناعةٌ دائمةٌ للألفاظِ والمَعَاني، وإشراقٌ مُستمر في التجارب الحياتية كَمًّا وكَيْفاً، وتَوْليدٌ مُتَوَاصِل للصُّوَرِ الفَنِّية المُدْهِشَة. والشاعرُ الحقيقيُّ لا يَنتظر مَجِيءَ الأنساقِ اللغويةِ، وإنَّما يَندفع باتِّجَاهها، ويَقتحمها، ويَندمج مَعَهَا، ويَنقلب عليها، مِن أجْلِ تَجميعِ شَظايا الانفجارِ الشِّعْري في العَواطفِ الإنسانية المُتأجِّجة، والحِفاظِ على دِيناميَّة قَصيدة النثر في ظِلِّ ضَغْطِ الهُوِيَّةِ على الذات، وضَغْطِ التُّراثِ على الحاضر. وهذا الأمرُ شديدُ الأهمية، لأنَّه يَمْنَح التكثيفَ الوُجودي للمَعنى الشِّعْري شرعيةً أخلاقيةً، وسُلطةً اجتماعيةً، وقُدرةً على اقتحامِ أعماقِ الشاعرِ في رِحلةِ البَحْثِ عَن الحُلْمِ بَيْنَ الأنقاضِ.

وإذا كانَ الشاعرُ مُهَاجِراً أبديّاً إلى أعماقِه وذِكْرَياته، فَإنَّ قصيدة النثر مُسافرة أبدية إلى رُوحِ اللغةِ وفلسفتها. وهذه الحَركةُ الشِّعْرية الدؤوبة النابضة بالحَيَاةِ والحُرِّيةِ تَمْنَع كَينونةَ الزَّمَنِ مِنَ التَّحَوُّلِ إلى أُسطوانة مَشروخة، وبالتالي يُصبح الزَّمَنُ تَيَّاراً للوَعْي، وفَضَاءً إبداعيّاً، ولَيْسَ سِجْناً للإبداع.

 

 

المجلة غير مسؤولة عن الآراء و الاتجاهات الواردة في المقالات المنشورة

 

 

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

قد تقرأ أيضا