ثقافة و فن

المقامة القرداحية

حَدَّثَنَا المُحامِي السُّنِّي فَارِس الكَسْم، قَال: أَحْسَسْتُ بِالضِّيقِ فَقَصَدْتُ

 الرَّاحَةَ وَيَمَّمْتُ شَطْرَ القَرْداحَةِ، وَإِلَيْها سَلَكْتُ الطَّرِيقَ.

وَبَعْدَ عَنَاءِ طَرِيقٍ طَوِيلٍ، جَلَسْتُ لِأَتَمَتع بِهَوَائِهَا العَلِيلِ.

وَكَانَ عَلَيَّ نَذْرٌ قَدِيمٌ أَنْ أُنْفِقَ دُولَاراً عَلَى مَنْ عَانَى مِنَ الفَقْرِ وَالمَضَاضَةِ

 أَشَدَّ العَنَاءِ،وَتَجَرَّعَ مِنْ مَرَارَاتِ الدُّنْيَا أَقْسَى الأَدْوَاءِ.

فَتَوَجَّهْتُ نَحْوَ سَاحَةٍ تَجْمَعُ النَّاسَ، فَإِذَا أَنَا بِمَزَارٍ فَاخِرٍ، يَتَدَافَعُ إِلَيْهِ النَّاسُ،

وَجَدْتُ رَجُلَيْنِ يَجْلِسَانِ فِي نَاحِيَةٍ،

 تَلُوحُ عَلَيْهِمَا آثَارُ الوَقَارِ، وَتُنْبِئُ عَنْهُمَا مَلَامِحُ الاِقْتِارِ.

فَاقْتَرَبْتُ مِنْهُمَا، وَسَأَلَنِي أَحَدُهُمَا: "مَرْحَبًا بِكَ يَا فَارِسُ، 

أَنَا الرَّئِيسُ الإِيرَانِيُّ هَاشِمِي رَفْسَنْجَانِي، وَهَذَا صَاحِبِي 

ابْنُ البَائِسَةِ نَاعِسَةٍ، ذُو الشَّخْصِيَّةِ العَابِسَةِ. مَا وَرَاءَكَ؟"

فَقُلْتُ: عَلَيَّ نَذْرٌ أَنْ أُعْطِيَ دُولَاراً لِأَكْبَرِ دَجَّالٍ، عَلَى شَعْبِهِ يَحْتَالُ، 

وَأَكْرَمِهِمْ عَطَاءً، وَأَشَدَّهُمْ بَلَاءً عَلَى الأَعْدَاءِ، عتل معلاق

 وَأَكْذَبِهِمْ عَلَى الإِطْلَاقِ.

فَنَظَرَ الرَّجُلَانِ إِلَى بَعْضِهِمَا نَظْرَةَ المُتَحَدِّيَيْنِ، ثُمَّ قَامَ كُلٌّ مِنْهُمَا يُفَاخِرُ بِنَفْسِهِ،

وَيُعَدِّدُ مَا يَحْمِلُ مِنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ الَّتِي طَلَبْتُهَا.

فَنَهَضَ رَفْسَنْجَانِي، ذَلِكَ الرَّجُلُ الَّذِي يَدَّعِي الحِكْمَةَ وَالدَّهَاءَ، وَقَالَ: 

"أَمَّا الدَّجَلُ، فَنَحْنُ أَهْلُهُ، فَقَدْ أَسَّسْنَا جُمْهُورِيَّةً إِسْلَامِيَّةً لَكِنَّهَا قَوْمِيَّةً عُنْصُرِيَّةً،

عَدَاؤُهَا لِلإِسْلَامِ وَالمُسْلِمِينَ أَشَدُّ مِنَ التَّتَارِ وَالصَّلِيبِينَ.

وَأَمَّا الاحْتِيَالُ، 

فَنَحْنُ أُصُولُهُ وَفُصُولُهُ، فَمَنْ أَشْطَرُ مِنَّا نَحْنُ

الفُرْسْ، نَسْلُبُ أَمْوَالَ النَّاسِ بِاسْمِ الخُمُسْ،

وَهُمْ مَسْرُورُونَ، وَنَدُعِسُهُمْ بِأَرْجُلِنَا دَعْسْ.

وَأَمَّا العَطَاءُ، فَنُنْفِقُ بِلَا حِسَابٍ، وَنُسَلِّمُ المِيلِيشِيَاتِ لِلطُّلَّابِ، 

لِتَنْشُرَ فِي بِلَادِ العَرَبِ الخَرَابَ

وَأَمَّا الكَذِبُ، فَسَبَقَنَا مُسَيْلِمَةُ الكَذَّابُ فَحَسْبِي أَنِّي مِنَ الفُرْسِ، 

الَّذِينَ اخْتَرَعُوا كَذِبَةَ جيش تَحْرِيرِ القُدْسْ وَجَعَلْنَا الطَّرِيقَ إِلَيْهَا يَمُرُّ بِحِمْصَ.

وَحَرْبُنَا مَعَ العَرَبِ كحرب ذَبِيَان وَعَبْسْ،

وَنَحْنُ مِنْ أَعْتَى الأَشْرَارِ، نَدَّعِي الاِنْتِمَاءَ لِلنَّبِيِّ المُخْتَارِ،

أَلَا يَكْفِيكَ مَا رَأَيْتَ مِنْ قُدْرَتِنَا عَلَى فَبْرَكَةِ الأَخْبَارِ؟

فَلَقَدْ جَعَلْنَا المُتْعَةَ كَزَوَاجِ المُسَيَّارِ،

وَأَفْتَيْنَا بِأَنَّ قَتْلَ المُسْلِمِينَ مُبَاحٌ .

نُصْرَةً لِبَشَّارِ السَّفَّاحِ، 

وَاخْتَرَعْنَا جِهَادَ النِّكَاحِ،

وَاخترعنا للْجَنَّةِ جَوَازَ سَفَرٍ  وَمِفْتَاحْ،

وَبِذَلِكَ أَنَا الأَجْدَرُ بِأَخْذِ الدُّولَارِ."

فَلَمْ يَكَدْ رَفْسَنْجَانِي يُنْهِي كَلَامَهُ، حَتَّى نَهَضَ ابْنُ نَاعِسَةَ،

 ذَلِكَ الرَّجُلُ الَّذِي يَدَّعِي أنه من الشجعان ، 

وَقَالَ: "مَهْلًا مَهْلًا يَا نَسْلَ سَاسَانَ،

 لَوْ نَطَقَ الدَّجَلُ لَقَالَ: أَنَا وَلِيدُكَ،

فَأَنَا مَنْ سَلَّمَ الجُولَانَ .

وَأَنَا مَنْ أَخْتَرَعَ سَلَامَ الشُّجْعَانِ .

وَإِلَيَّ تُنْسَبُ كَذِبَةُ نَيْسَانَ

وَلَوْ قَامَ الاحْتِيَالُ لَشَهِدَ بِأَنَّنِي أَسَاسُهُ وَبُنْيَانُهُ. 

فَأَنَا مَنْ يَبِيعُ ثَرَوَاتِ بِلَادِي الدَّفِينَةَ 

وَأَضَعُهَا فِي حِسَابِ زَوْجَتِي الَّتِي أَدَّعِي أَنَّهَا أُمَيْنَةٌ

 مَعَ أَنَّ اسْمَهَا أُنِيسَةُ وَهِيَ خَؤُونَةٌ وَخَسِيسَةٌ 

فَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تَطْلُبُ الهَدَايَا النَّفِيسَةَ

 مِنْ كُوهَيْنَ  . الجَاسُوسُ العَتِيدُ

 وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُنَسِّقُ سِرّاً مَعَ صَلاح جَدِيد

 وَهِيَ الَّتِي أَنْجَبَتْ لِي أَسْوَأَ وَلِيدٍ

هَذَا الَّذِي سَمَّيْتُهُ بَشَّارَ البَلِيدَ 

 فَكَانَ نَذِيرَ الشُّؤْمِ وَالدَّمَارِ

وَأَمَّا العَطَاءُ وَالجُودُ، فَأَنَا صَاحِبُ المَكْرَمَاتِ وَالوُعُودِ

 وَأَنَا مَنْ قَتَلَ النَّاسَ فِي حَمَاةَ كَأَصْحَابِ الأَخْدُودِ 

وَأَنَا صَاحِبُ العَطَايَا الخَلَبِيَّةِ وَ الاِنْجَازَاتِ  الأَشْتَرَاكِيَّةِ،

فَأُعْطِي بِاليَمِينِ وَأَأْخُذُ بِالشِّمَالِ، حَتَّى جَمَعْتُ جَمِيعَ الأَمْوَالِ

وَجَعَلْتُ رعيتي يَعِيشُونَ فِي حَالَةٍ مِنَ الهَوَاجِسِ وَالوَسْوَاسِ بَيْنَ يَدَيَّ،

وَيَبْقَى اسْمِي يَجْلَجِلُ بين الناس كَالأَجْرَاسِ 

وَأَمَّا الكَذِبُ، فَتَجَلَّى فِي ادِّعَائِي لِلقَوْمِيَّةِ العَرَبِيَّةِ 

وَكُنْتُ أُقَاتِلُ مَعَ أَعْدَائِهَا مِنَ القَوْمِيَّةِ الفَارِسِيَّةِ 

 وَكُنْتُ أَفُوزُ بِجَوْلَاتِي التَّنَافُسِيَّةِ 

بِاِنْتِخَابَاتٍ خُنْفَشَارِيَّةٍ أُحَقِّقُ قِيهَا نِسْبَةَ مِئَةٍ بِالمِئَةِ 

فَاسْأَلُوا  التَّارِيخَ، هَلْ مَرَّتْ عَلَيْهِ شَخْصِيَّةٌ خُرَافِيَّةٌ خَيَالِيَّةٌ مِثْلِي؟

 فَأَنَا كُنْتُ أُغَيِّرُ الوُجُوهَ، وَأَصْنَعُ الحَقَائِقَ مِنَ الوَهْمِ. 

فَمَنْ مِنَّا يَسْتَحِقُّ هَذَا الدُّولَارَ؟

مَنْ مِنَّا الأَجْدَرُ بِتِلْكَ

الصِّفَاتِ؟"

فَنَظَرْتُ إِلَى كِلَا الرَّجُلَيْنِ، فَوَاللهِ مَا عَلِمْتُ أَيَّهُمَا أَحَقُّ بِذَلِكَ الدُّولَارِ،

 وَأَيَّهُمَا أَجْدَرُ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ، 

فَتَرَكْتُهُمَا وَالدُّولَارُ بَيْنَهُمَا، وَانْصَرَفْتُ وَأَنَا أَتَفَكَّرُ فِي مَا صَنَعَ الدَّهْرُ بِهِمَا.

-----

عبد الناصر عليوي العبيدي

 

المجلة غير مسؤولة عن الآراء و الاتجاهات الواردة في المقالات المنشورة

 

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

قد تقرأ أيضا