رغم أن تقدّم الحضارة البشرية مر بمراحل مختلفة وطويلة من التطورات العلمية والتقنية وتراكم الخبرات البشرية ، إلا أن وتيرة التطور تسارعت بشكل ملحوظ على مدى النصف الأخير من القرن الحالي الذي شهد ظهور العديد من تقنيات المعلومات والاتصالات التي تجاوزت حدود الزمان والمكان، ودفعت عجلة الحضارة البشرية بشكل استثنائي لتفتح أمامها آفاقاً جديدة تحمل فرصاً جوهرية للأفراد والمؤسسات على حد سواء. وليست منطقة الشرق الأوسط استثنائاً لما يحصل في بقية أنحاء العالم، فقد كان هناك انتشار شامل للاتصالات الشبكية وتكنولوجيا المعلومات، شكل بداية لثورة معلوماتية حقيقية ذات آفاق جديدة كلياً.
وفيما تتقدم منطقتنا نحو المرحلة التالية من المجتمع الرقمي، يتحدث ايهاب غطاس، نائب رئيس شركة "هواوي" في منطقة الشرق الأوسط حصرياً إلى ITP.net قبيل المؤتمر العالمي للاتصالات المتنقلة (MWC) حول توقعاته عن التطورات المذهلة التي بانتظارنا.
اتصالات النطاق العريض ليست مجرد بنية تحتية فحسب، بل توجهاً تجارياً جديداً
يتمثل جوهر الاتصالات المتنقلة عريضة النطاق الترددي في إمكانية الاتصال الشبكي من أي مكان وزمان. وبكونها عنصراً رئيسياً من عناصر البنية التحتية مثل شبكة الطاقة، ساهمت شبكة الإنترنت بشكل كبير في دعم إنتاجية المجتمعات وتخفيض التكاليف. فالقيمة الفعلية للوصول الشبكي لا تقتصر على توفير الاتصال فحسب، بل تتعدى ذلك إلى فوائد وميزات كثيرة. ولذلك تعتبر اتصالات النطاق العريض بمثابة توجه جديد يتمحور حول توفير "الاتصال للجميع دون أي عوائق" للأفراد والمؤسسات وعملائهم وشركائهم على حد سواء. وبناء على ذلك، سيقوم عدد متزايد من المؤسسات بإعادة هيكلة توجهات أعمالهم مع التركيز بشكل أكبر على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات؛ وذلك يشمل مجالات التسويق والبحث والتطوير والعمليات التشغيلية ونماذج الخدمات، لتصبح مرتكزة على الخدمات الرقمية الجديدة، وليس مجرد بناء تكنولوجيا المعلومات على أساس نماذج الأعمال التقليدية .
إحداث القيمة وليس مجرد توفيرها
يتمحور أي عمل تجاري بشكل رئيسي حول إحداث القيمة وتوفيرها للجمهور المستهدف؛ أما توفير القيمة فهو ما نعرّفه عادة بأنه: تدفق المعلومات وتدفق رأس المال وتدفق الإجراءات اللوجستية. وقد تبدّدت هذه العناصر الثلاث مع ازدهار منصات التجارة الإلكترونية، لا سيما مع ما تُحدثه الاتصالات عريضة النطاق من تحول جذري في عملية توفير القيمة. ومن شأن تزايد اندماج العالمين الرقمي والمادي أن يخفض، بل حتى يزيل العديد من الإجراءات الوسيطة.
ونشهد اليوم تزايداً واضحاً في تأثير تكنولوجيا المعلومات والاتصالات على عملية إحداث القيمة، لا سيما في مجال البحث والتطوير ومجالات التصنيع. وبالنظر إلى نموذج البحث والتطوير، رأينا مسبقاً توجهاً نحو تعزيز مشاركة المستخدم والأنشطة القائمة على الاستعانة بالجمهور. وينطوي هذا التحول على بعد تقني أيضاً، ويبدو ذلك واضحاً في حالة شركة "تيسلا" (Tesla) التي تعمل على إعادة تعريف السيارات باستخدام تكنولوجيا المعلومات والإنترنت. كما يتم إحداث تحول واضح في قطاع التصنيع؛ فبعد المحرك البخاري والكهرباء وتكنولوجيا المعلومات، تعمل الإنترنت على دفع عجلة الثورة الصناعية الرابعة، أو ما ندعوه "الصناعة 4.0" (Industry 4.0)، مما يدعم تكامل الإنتاج واسع النطاق مع ورشات العمل اليدوية المتنوعة والمخصصة لتلبية متطلبات شرائح معينة من المستخدمين.
أشكال جديدة من احتكار المعلومات
تعمل بنية تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الحديثة على تسهيل نشر المعلومات والوصول إليها؛ مما يحول دون احتكار المعرفة والمعلومات من قبل قطاعات أو مؤسسات معنية، ويصعّب على هذه الجهات الاحتفاظ بتلك القيمة العالية التي اعتادوا على التمتع بها فيما مضى. ولكن لكل أمر جوانبه الإيجابية والسلبية؛ فرغم أن تعزيز الاتصالات يحول دون تحقيق تلك النماذج والمفاهيم القديمة، إلا أنه يُحدث أشكالاً جديدة من الاحتكار والتفاوت في امتلاك المعلومات على مستويات أعلى؛ حيث يقوم عمالقة الإنترنت اليوم بجمع كميات هائلة من بيانات التعاملات والمستخدمين وتسخير تحليلات "البيانات الضخمة" (big data) لاستكشاف سلوكيات المستخدمين وإحداث أشكال جديدة من احتكار المعلومات والتفاوت في امتلاكها للتفوق على غيرهم من المؤسسات ومزودي الخدمات.
التركيز على المستخدمين في كافة مراحل الأعمال
في ظل إلغاء مفهوم احتكار المعلومات التقليدي وزيادة شفافية المعلومات بشكل عام، يحظى المستهلك العصري بمزيد من الاطلاع والتمكين لاتخاذ قرارات الشراء. ولذلك، يتعين على المؤسسات عدم الاقتصار على مجرد تلبية احتياجات العملاء والتجاوب معها، بل المضي قدماً إلى مستويات أعلى من التركيز على المستخدم بما يتطلبه من إشراك المستهلكين في كافة مراحل وإجراءات الأعمال، ابتداءً من جمع المتطلبات ومروراً بتصور المنتج وتصميمه والبحث والتطوير والتسويق ووصولاً إلى خدمات ما بعد البيع. وهذا لا يقتصر على بناء مجتمعات رقمية (شبكات من المستخدمين عبر الإنترنت) ومنتديات للمستخدمين، بل يتطلب تحولاً في الإدارة عن طريق التحليلات الفورية المدعومة بهيكلية تقنية معلوماتية. ولا يمكن للمؤسسات تحقيق الازدهار في هذا السياق إلا عبر التعاون مع عملائها والاستفادة من الحكمة الناتجة عن كافة المستخدمين.
نضوج نماذج تكنولوجيا المعلومات المرتكزة على البرمجيات والقابلة للتطور الكامل
في مواجهة مثل هذا الكم الهائل من حركة استخدام المعلومات والبيانات، لا بد للبنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات من التمتع بالسرعة والمرونة والقابلية لمواكبة التطورات، الأمر الذي يؤدي إلى إلغاء الهيكلية التقليدية القائمة على مكونات الأجهزة المادية ونموذج الإنشاء بتخطيط مسبق؛ وهذا ما يقود إلى ظهور نماذج الحوسبة القائمة على البرمجيات والقابلة لمواكبة التطورات المستقبلية.
ولا يقتصر مصطلح "البرمجيات" على قطاع تكنولوجيا المعلومات -كوسائل التخزين القائمة على البرمجيات ومراكز البيانات القائمة على البرمجيات- بل يشمل قطاع الشبكات، بما في ذلك الشبكات القائمة على البرمجيات (SDN) والخدمات الافتراضية الشبكية (NFV)؛ الأمر الذي يحقق هيكليات أكثر مرونة عبر البرمجيات المبنية على الأجهزة القابلة للبرمجة.
أما بالنسبة للنماذج الحاسوبية القابلة لمواكبة التطورات المستقبلية، فهي تنتشر في كل مكان؛ من الرقاقات الأساسية متعددة النواة إلى وسائل التخزين الموزّعة إلى الحوسبة المتوازية وصولاً إلى هيكلية الشبكات الموزَّعة كلياً. وخلافاً للنماذج القابلة للتطور الجزئي المرهون بحدود المواد والإجراءات المتاحة، تتيح النماذج القابلة للتطور الكامل تحقيق قدرة استيعابية هائلة وتخفيض التكاليف المرتبطة بذلك.