كتبت فيوليت غزال البلعة في Arab Economic News : مطلع الأسبوع اللبناني كان حافلا بالمواقف والتحركات والمطالب. بعضها مطمئن نقديا ومصرفيا، وآخر منها مبطن برسائل سياسية تقارب الملف الإقليمي أكثر منه المحلي، والمحلي الظاهر وليس الخفي. إنتظر اللبنانيون بارقة أمل على صعيد المشاورات الجارية خلف كواليس الشارع المضطرب، لتؤذن ببدء الإستشارات النيابية تمهيدا لولادة صدمة الثقة المنتظرة...
مداواة الداء هي بالإستقرار السياسي. مفتاح الحل معروف، لكن العقد كثيرة. فكيف لأحوال البلاد أن تستقرّ إن لم تفرج مواقف أهل السلطة عن توافق على إنفراج يضمن ولادة حكومة قادرة على إخراج البلاد من كبوتها؟ فالطريق المسدود هو عنوان مسالك المشاورات السياسية، حيث يبدو تضارب الآراء وكأنه يضرب عرض الحائط ما تتخبط فيه البلاد من أزمات إجتماعية ومعيشية ومالية يخشى تفاقمها إن إنعدمت العلاجات الناجعة.
حسنا فعل موظفو المصارف بإعلانهم الإمتناع عن البقاء في خط المواجهة الأول مع المودعين. قررت نقابة الموظفين اللجوء إلى الإضراب المفتوح "إلى حين إستقرار الأوضاع في البلاد". لاقتها جمعية المصارف حتى منتصف الطريق، فسارعت إلى التفاوض بعد الترحيب بتوجيهات حاكم مصرف لبنان رياض سلامة التي أعلنها في مؤتمر صحافي ظهر أمس، وأكدت بعد اجتماع إستثنائي لمجلس إدارتها، إستمرارها في العمل لتوفير حاجات الناس الأساس، معتبرة "أن عودة الإستقرار السياسي ستساهم الى حدّ كبير في عودة الأمور الى طبيعتها".
رسائل إستثنائية وجهها الحاكم رياض سلامة أمس. على ثلاثة خطوط متوازية، قدّم خريطة طريق نقدية ومصرفية وسياسية، توزّعت عناوينها كالآتي:
أولا في اتجاه اللبنانيين، حين تعمّد أن يطمئن إلى استمرار سياسة الحفاظ على إستقرار سعر صرف الليرة اللبنانية، "وإمكاناتنا متوافرة لذلك. إذ أن ثبات الليرة هو عنوان ثقة ليستمرّ دخول الدولار إلى لبنان"، مشيرا الى أن قدرة المصرف على مواجهة أزمة سيولة الدولار عبر إحتياطي أجنبي "قابل للإستعمال" وهو بمقدار 30 مليار دولار، وذلك عبر ضخّ التمويل (على شكل سلفات) للمصارف بفائدة 20%، ومنع تحويل أي منها إلى الخارج.
كذلك، أكد حماية الودائع والمودعين، مشيرا إلى تدابير متخذة في هذا السياق لتفادي تحميل المودعين أي خسائر. وطمأن إلى عدم إتخاذ أي إجراء لإعتماد آلية الـ Capital Control (القيود على التحويلات) أو الـHaircut (الإقتطاع من الودائع)، "لانه أصلا لا صلاحية قانونية لدينا لفرض الأمر، ولا نية لنا بذلك، والودائع هي ملك اللبنانيين".
ثانيا، في اتجاه المصارف اللبنانية، حين دعاها الى إتخاذ "مبادرات لإراحة السوق"، وإلى تحسين إدارة السيولة، وإعادة درس التسهيلات التي خُفّضت منذ 17 تشرين الأول/أكتوبر، وتلبية الشيكات المرتجعة، وإبقاء البطاقات الإئتمانية بالسقوف عينها، وإتاحة تسديد القروض بالليرة اللبنانية لا بالدولار فقط.
وللمصارف أيضا، دعوة لتأمين حاجات البلاد التموينية بالتنسيق مع التجار والموردين، مؤكدا أن مصرف لبنان فتح الإعتمادات للقمح والمحروقات والأدوية، "وهي مؤمنة وسارية مع المصارف المراسلة".
ثالثا، في اتجاه السلطة السياسية، حين تحدّث أكثر من مرة عن "ظروف إستثنائية"، ودعوته الى تطبيق إصلاحات أساسية (الكهرباء التي تستنزف ثلث عجز الموازنة والمياه)، وإقرار موازنة بلا عجز وخالية من الضرائب ومن دون تحميل موظفي القطاع العام أعباءها، وإعتماد الخصخصة لتفعيل القطاع الخاص والعام "ولدى لبنان القدرة على رسملة نفسه".
ما لم يقله الحاكم سلامة صراحة هو الحاجة الملحة اليوم وليس غدا، إلى حسن إدارة الأزمة الراهنة، وذلك عبر توليد حكومة تتولى مهمات إنقادية في الفترة الإنتقالية وفق برنامج واضح المعالم، بما ينعكس على كل مفاصل الحياة اليومية للبنانيين. هي دوامة ستبقي أفواه الثوار مفتوحة في اتجاه كل السلطة السياسية لتأخذ بجريرتها "الصالح والطالح"، وتتيح إستمرار حملات تهميش الثقة المتهالكة بلبنان في وقت هو أحوج اليها من أي وقت مضى بعد خفض تصنيفه الإئتماني، ولتكرّ سبحة الإضرابات المفتوحة على مزاج شعبي يتغذى من تقاعس سياسي عن المسارعة في حسم الأمور.
اليوم، لا مصارف ولا أعمال ولا مدارس ولا جامعات. لكن على خط آخر، تتكثف إجتماعات جمعية المصارف والتجار والموردين، ومع رئيس الحكومة المستقيل سعد الحريري لإنهاء أزمة الدولار/الليرة ومفاعيلها التي إنعكست في السوق إرتفاعا في أسعار السلع الغذائية بنسب متفاوتة (بين 30 و40 و50%) في ظل تهافت المواطنين على تموين ما أمكن من سلة إستهلاكية غير مراقبة وغير محمية من مسؤول.
ظروف إستثنائية تدفع بالجميع إلى التحرك، لكن المطلوب واحد: حكومة إختصاصيين مستقلة وقادرة على "صدم" اللبنانيين إيجابا لتهدئة مخاوفهم وتخفيض منسوب قلقهم، وقادرة على إقناع المجتمع الدولي بأن لبنان دولة قابلة للنهوض. رئيس الجمهورية ميشال عون يطلّ مساء اليوم في "حوار إعلامي متلفز" ولا معلومات ترجح إطلاق الإستشارات النيابية، وموفد الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون يصل إلى بيروت "في مهمة إستكشافية" ولا معلومات تؤكد أنه يحمل إقتراحات وسيطة لحلول قريبة...
لبنان يحتاج حتما إلى بوصلة جديدة لخريطة طريق مستقبلية، قدّم حاكم مصرف لبنان شقها النقدي والمصرفي، ويبقى في الشق السياسي الكثير من العمل لإحياء الكثير من الأمل لئلا تبقى الليرة اللبنانية في عين الحكومة، عاصفة لأزمة الثقة رغم ثبات سعرها رسميا، ولئلا يبقى المواطن معلقا على خشبة خلاص تتأرجح على شكل حكومة إنقاذ منتظرة مع كل تسريبة أو معلومة تقول إنها وشيكة... وإلى حينه فإن لبنان أمام "ساعات فاصلة"!