جاء العرض المدني المتميز ليظهر أن ثورة اللبنانيين خلاقة، وأنه كلما ظنت السلطة السياسية أن هذه الثورة تراجعت أو ضجر أهلها أو ضعفت همتهم، كلما أنتجت إبداعا أعاد إحياء جذوتها من جديد، ما يؤكد أن تواجد المواطنين في الساحات والشوارع ليس مجرد ترف، وإنما هو موقف متقدم وقرار حاسم وتعبير جدي عن وجع وإنعدام ثقة بسلطة وضعت كل مصالحها فوق مصالح شعبها على مدار ثلاثين عاما الى أن إنفجر وبدأ يزلزل الأرض من تحتها.
بالأمس كان لبنان أمام صور عدة، أبرزها: صورة ثلاثة رؤساء متجهمي الوجه حضروا قسرا للمشاركة في الاحتفال الرسمي بالاستقلال بعدما حال الحراك الشعبي من إقامته كالعادة في جادة شفيق الوزان، وقد بدا التواصل مقطوع بينهم بفعل الخلافات والصراعات على المكاسب الحكومية المقبلة..
صورة قصر بعبدا الخالي من المهنئين بالاستقلال نتيجة هذا الحراك الذي هدد بقطع الطرقات الأمر الذي عطل للمرة الأولى تقليدا وطنيا إستمر مع كل رؤساء الجمهورية من دون إنقطاع منذ إتفاق الطائف ولغاية اليوم..
صورة ساحات المناطق اللبنانية التي قدمت أجمل ما لديها إحتفالا باستقلالها عن التيارات السياسية والأحزاب والطوائف والمذاهب..
صورة قبضة الثورة في وسط بيروت التي أحرقت صباحا وأدمت قلوب كثيرا من اللبنانيين وتم رفعها ليلا وسط هتافات الفرح ما يؤكد على إصرار الحراك في المضي بمسيرته التي كلما تعرضت للاعتداءات كلما إزدادت عزما وقوة ومنعة وتوهجا..
صورة العرض المدني في ساحة الشهداء والتي شكلت إنقلابا على العرض العسكري، وجمعت كل شرائح المجتمع اللبناني، وحققت إستقلالا ناجزا، عرض شعر كل لبناني شارك فيه أو شاهده على شاشات التلفزة أن له دورا فيه وأنه يمثله ويلبي طموحاته ويحقق ذاته، عرض أقيم من دون رسميات وقطع طرقات وتدابير أمنية وسيارات مواكبة، فهنا لا يخاف اللبنانيون من بعضهم البعض، ولا يرفعون الحواجز فيما بينهم، بل يتقاربون بطوائفهم ومذاهبهم ومناطقهم، ويجتمعون تحت راية العلم اللبناني ليعبروا عن وطنيتهم ووحدتهم وعيشهم الواحد وسلمهم الأهلي، وعن فرحهم بالاستقلال الذي غاب عنهم لسنوات بعدما صادرته السلطة السياسية فكان الاحتفال يوم أمس باسترجاعه كبيرا جدا..
حمل العرض المدني رسائل متعددة من خلال الأفواج التي شاركت فيه وعبرت عن نفسها وعن حضورها وعن دورها في هذا الوطن، فأكد العسكريون المتقاعدون أنهم يستحقون التكريم بما يمثلونه من تاريخ لبنان المجيد، كما أكد المعلمون أنهم بناة الأجيال، والبيئيون حافظو ما تبقى من لبنان الأخضر، والمحامون حراس العدالة، والطلاب المستقبل الواعد، والأمهات الحضن الدافئ، والأشبال أمل الغد، والآباء صمام أمان عائلات الوطن، والأطباء ملائكة الانسانية، والاعلاميون أصحاب الحق والحقيقة، والمهندسون صناع الابداع، والعمال اليد المعطاءة، والصناعيون رافدو الانتاج الوطني، والمواصلات للجمع بين اللبنانيين، والاندفاع الذي هو سمة المنتفضين على السلطة، والحرفيون الأيادي الماهرة، والتجار المساهمون في حركة البلاد، والفنانون الوجه اللبناني الحضاري، والنساء شقائق الرجال، ورجال الأعمال القوة الاقتصادية التي يعتمد عليها، والمبدعون رافعو إسم بلدهم عاليا، والطاقة التي تولد القوة والاندفاع، والرياضيون أصحاب الانجازات، والسياحة رسالة جمال لبنان وشعبه المضياف، والمغتربون المدد اللبناني الآتي من الخارج، والموسيقيون اللحن الوطني الجميل، والمشاة حماة الوطن، والطناجر لقض مضاجع المسؤولين، والدراجات لاعطاء الصورة اللبنانية المشرقة، والدراجات النارية التي تفتح المناطق على بعضها البعض، وحقوق الانسان التي لم يعد من الجائز أن تبقى منتهكة في وطن الاستقلال الحقيقي.
يمكن القول أن الثورة التي إنطلقت في 17 تشرين الأول، أصبحت واقعا لا يمكن للسلطة أن تتفلت منه، خصوصا بعدما أثبتت الوقائع أنها ثورة عصية على الموت، منيعة من التطويع، مسكونة بالعزيمة القوية والارادة الصلبة، خلاقة تصنع المعجزات، وتفاجئ السلطة التي إنصاعت لها في يوم الاستقلال فأخلت الساحة لها للاحتفال على نهجها وطريقتها.