هذه المقاربات المختلفة لواقع الأزمة الداخلية وسبل الخروج منها، مرشّحة لأن تأخذ مداها أكثر في الأيام المقبلة، لا سيما بعدما انكسرت إحدى الحلقات الأساسية التي كان الفرنسيون يعوّلون عليها في إعادة إحياء التسوية ومعها إنعاش الوضع الاقتصادي وسحب فتيل التشنج الأمني معه، بإعلان الحريري عدم رغبته في ترؤس الحكومة. فمستقبل الوضع اللبناني لم يعد مرهوناً بنتيجة المشاورات الحكومية وتسمية رئيس مكلف جديد للحكومة، ولا بطرح حلول لأزمة مالية واقتصادية مرشحة لأن تتضاعف حدتها يوماً بعد آخر، لأن تداعيات الأزمة الداخلية باتت متعلقة بمشهد إقليمي أوسع. فلبنان قبل 17 تشرين الأول كان لا يزال يعيش على وقع تقاطعات إقليمية ودولية تحميه من أي سقوط أمني خارجي، كما حصل حين وصلت الأمور إلى ذروتها مع إسرائيل، وداخلياً مع حماية التحالفات الطائفية والسياسية والتسوية التي جاءت بتركيبة عجائبية ضمّت أركان الطبقة السياسية. بعد 17 تشرين الأول، اتخذ المشهد اللبناني بعداً آخر، ليس لأنه تزامن مع تظاهرات العراق فحسب، بل لأنه أعاد بيروت إلى خط التماس والتوتر الإقليمي وانعكاسه داخلياً، في وقت تغرق كل دول المنطقة الفاعلة في أزماتها الداخلية. فإيران كأكبر لاعب إقليمي منشغلة بأوضاع الساحات التي لها يد طولى فيها من العراق إلى سوريا قبل أن تصل إلى لبنان، وبأوضاعها الاقتصادية والاحتجاجات فيها، وتركيا منغمسة في تتبع آثار تدخلها في سوريا، وإسرائيل مشغولة بأوضاعها الداخلية ونتائج انتخاباتها وتشكيل الحكومة فيها. وهكذا هي حال الرعاة الدوليين، فواشنطن رغم حرصها على تصعيد خطابها ضد إيران وعقوباتها عليها وعلى حزب الله، إلا أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب مشغول بأزماته والحملات الداخلية ضده والانتخابات الرئاسية. في حين تحاول روسيا التفتيش عن موطئ قدم لبناني، بعد سوريا، وهي تحاول في ظل انشغالات دول المنطقة، أن تؤدي دوراً ما في أزمة بات حلها يحتاج إلى إخراج دولي.
في ظل مشهد متشابك ومتوتر لدول متصارعة، يساهم في تعميق الأزمات الإقليمية، تكون المخارج عادة إما الذهاب إلى صدام وحروب، وإما الجلوس إلى طاولة مفاوضات. من هنا يمكن الكلام عن أزمة لبنان التي انفجرت في توقيت إقليمي متشنّج، لجهة المسؤوليات التي ساهمت في إذكائها، بدل احتوائها من اللحظات الأولى. فتجارب الحرب والسلم الطويلة دلت على أنه كلما زادت أزمة لبنانية عن حدّها، تفرّعت منها أزمات كثيرة، مالية واقتصادية وأمنية وطائفية. فكيف الحال إذا توافرت كل هذه العوامل حالياً، مترافقة مع انشغال إقليمي ودولي عن لبنان، ومع تخلّ داخلي عن موجبات منطقية لمعالجة الأزمات واحدة تلو الأخرى. وهذا يقود إلى خلاصة يختصرها مطّلعون على جوانب من محادثات دبلوماسية غربية، أن الأزمة الحالية لا تزال في بداياتها، وأن ترك الأوضاع المالية والاقتصادية تفلت، كما التدهور على المستوى السياسي، يعني أن المعالجات ستكون مبهمة، طالما لا تزال أسباب التفجّر المفاجئ لكل الحالة الراهنة، سياسياً وأمنياً واقتصادياً حتى هذه اللحظة غير معروفة بالكامل. وهذا يطرح أمام الداخل والخارج تحديات على مستوى مستقبل الحالة الشعبية في الشارع ومصيرها، كما مصير أركان السلطة الحالية. لأن عملية الاستشارات والتكليف لم تكن في صلب المطالبات الشعبية، وهي وسيلة وليست غاية في حد ذاتها، ووجود ممثلين مباشرين لأركان السلطة في أي حكومة، يعني أن هؤلاء سيحافظون على قوتهم وحضورهم الفعلي، لا بل سيكون حضورهم أقوى وأقسى نتيجة ردة الفعل على كمّ الاستهدافات ضدهم. والاحتكاكات التي بدأت في أكثر من منطقة بين "شارعين" مؤشر مقلق إلى مرحلة قد تكون أكثر حساسية وحدة، في وقت انشغال إقليمي ودولي عن لبنان".