هذا الحوار هو عيّنة ممّا يدور يومياً في المتاجر والمؤسسات، وسط عجز حقيقي عن تحديد الصواب من الخطأ.
تهافت على التموين
إنطلاقاً من الدكاكين الصغيرة ووصولاً إلى أبواب "هايبر ماركت" تُسجّل كل متاجر بيع المواد الغذائية، تهافتاً غير مسبوق على "التموين" وبكميات كبيرة. وبحسب رئيس مجموعة شركات رمال، عدنان رمال فإن "هذه الحالة بدأت تلاحظ قبل اندلاع الإنتفاضة وبالتزامن مع أزمة السيولة في المصارف".
نقطة التحول الكبيرة برأيه كانت في "تخفيض تصنيف لبنان السيادي من قبل الوكالات العالمية، وما رافقها من تحذيرات عن إمكانية عجز لبنان عن سداد ديونه وإعلان إفلاسه، وعدم قيام الحكومة آنذاك بأي شيء يُعيد الثقة".
هذا الواقع يترافق مع تحذير مختلف الشركات المستوردة للمواد الغذائية والطبية عن عجزها عن الإستيراد وتلبية حاجة الأسواق. فعدم توفّر الدولار ومنْع المصارف عمليات التحويل الى الخارج، فاقما الأزمة وشعّباها إلى مختلف القطاعات الحيوية والاستراتيجية.دعم الدواء "كذبة"
التخزين طال أيضاً الأدوية، وتحديداً ما يتعلّق منها بالأمراض المُزمنة، كالضغط والسكّري والسيلان والكولسترول وغيرها الكثير. وبحسب أوساط الصيدليات فإن "نسبة كبيرة من المرضى يعمدون إلى شراء كميات كبيرة من الأدوية للأمراض المُزمنة تكفي لحوالى 6 أشهر بأقل تعديل". وهو ما بدأ يُعرّض مخزون هذه السلع للنفاد من الصيدليات والشركات، مع عجز الأخيرة عن استيراد كميات جديدة، بالرغم من قرار مصرف لبنان تأمين الدولار... "المدعوم".
الصيدلي أيمن باز يقول إن "قرار البنك المركزي ما زال حبراً على ورق، ولم يدخل حيّز التنفيذ لغاية اللحظة. وهو ما يعرّض المواطنين لنقص فاضح في تأمين الادوية وإلحاق خسائر بالشركات والتسبّب بإقفال الكثير منها وتشريد عمالها". ما يحدث على هذا الصعيد خطير جداً، وهو يفوق معاناة مختلف القطاعات التي تبيع بالليرة اللبنانية ومضطرّة إلى الدفع بالدولار، لأن سعر الدواء محدّد بالليرة وليس هناك إمكانية لنقل كلفة سعر صرف الدولار الى المواطن.
ويلفت باز إلى أن "كلفة تحويل الليرة إلى الدولار إرتفعت بمقدار 25 في المئة على أقل تعديل، في حين أن نسبة أرباح الشركات المستوردة ثابتة، وهي محدّدة من الوزارة بـ 7 في المئة من إجمالي الكلفة. وبالتالي فإن تغيّر سعر الصرف يُشكّل خسارة موصوفة بلغت حوالى 20 في المئة لغاية الآن في كل عملية استيراد".
هذا الواقع أدى إلى انقطاع معظم الأدوية منخفضة الثمن من الأسواق، وسيؤدي عما قريب الى فقدان مختلف الأصناف من الصيدليات بعد نفاد مخزون الشركات، الذي عادة ما يكون لثلاثة أشهر.
وبحسب باز فإن "الشركات المستوردة الكبيرة ستتعرض لخسائر أكبر بكثير من الوكلاء العاديين، ولن تستطيع تحمّل كلفة التراجع الناجمة عن فرق العملة، وستخرج من السوق".
تصفية التعويضات
ظاهرة أخرى تستحق الوقوف عندها، وهي إرتفاع نسبة تصفية الموظفين لتعويضاتهم في الضمان الإجتماعي، رغم عدم تركهم العمل. فعدا عن موجة سحب تعويض نهاية الخدمة التي فاقت نسبتها 200 في المئة منذ العام 2010 لغاية مطلع العام 2019، بسبب الظروف الإقتصادية وصرف العمال والموظفين، فإن الكثير من المواطنين يعمدون مؤخراً الى سحب تعويضاتهم خوفاً من انهيار الدولة وعجز الضمان عن دفع مستحقاتهم.
فزيادة الضغط على صندوق نهاية الخدمة المليء، والذي يُشكّل بالمناسبة المموّل الأساسي لصندوق المرض والأمومة العاجز، بعد استقالة الدولة من دورها وتراكم حوالى 3000 مليار ليرة عليها من مستحقات، قد يتعرّض بدوره للخطر. والسبب لا ينحصر بزيادة السحوبات، بل إن هذا الصندوق يوظّف نصف موجوداته في سندات الخزينة، والنصف الآخر كودائع متوسطة الأجل في المصارف. وبالتالي فإن عجز الدولة عن الإيفاء بديونها سيُعرّض هذا الصندوق للإنهيار، وهنا الكارثة.
بغضّ النظر عن دوافع التخزين والتموين وما إذا كانت عنصراً سلبياً يؤدي إلى مفاقمة الأزمة وتسريع الإنهيار، فإنها في النهاية ردّة فعل غرائزية طبيعية، تتحمّل مسؤوليتها السلطة، أولاً لفقدانها ثقة مواطنيها، وثانياً لسوء إدارتها لكل الملفات الإقتصادية والإجتماعية.