تجاوز لبنان قطوعا كاد أن يؤدي به الى فتنة لا تبقي لا تذر، سواء على الصعيد الطائفي (الشياح وعين الرمانة) أو على الصعيد المذهبي (سنة وشيعة) في وقت حرص فيه الجميع على تجهيل الفاعل، فتنصل كل المعنيين بالتظاهرة من القرار 1559 معترفين أنه يشكل عامل إنقسام، ونام أهل الفتنة على كتف تياراتهم بغطاء سياسي ـ أمني لتلافي المزيد من الاستفزازات، وغضت الاجهزة طرفها عنهم، وعاد الهدوء ليخيم على وقع تصريحات الادانة والشجب والاستنكار التي لا تسمن ولا تغني من أمن وإستقرار طالما أن هناك فتنة "غب الطلب" يستحضرها البعض متى شاء فيعيد من خلالها عقارب الساعة الى الوراء، ويدفع اللبنانيين الى التقاتل من جديد.
كل المؤشرات توحي أنه من الصعب إعادة إحياء ثورة 17 تشرين على النحو الذي بدأت به او كانت عليه، خصوصا أن السواد الأعظم من اللبنانيين الذين تحمسوا لشعاراتها ومطالبها ونزلوا الى الشارع لدعم توجهاتها، عادوا اليوم الى إحباطهم والى إلتزام منازلهم، بعدما تكشفت لهم أمورا كانت حتى الأمس القريب خافية عليهم، لجهة تيارات سياسية حاولت أن تركب موجة الثورة ففتحت الشوارع لأنصارها وأغلقتها بحسب ما تقتضيه مصالحها وأجنداتها.
أو لجهة طامحين أرادوا أن يتسلقوا من خلال الثورة الى مراكز متقدمة، الى مخربين أرادوا إعطاء الثورة صبغة فوضوية ترجمت بالاعتداء على الاملاك العامة والممتلكات الخاصة، الى قادة محاور جدد وجدوا في الثورة ضالتهم في التحكم بالعباد من خلال إقتحام المراكز وقطع الطرقات والاعتداء على هذا وذاك، الى فقراء ومساكين غاضبين يسعون الى التغيير وجدوا أن لا مكان لهم بين المصالح والتسلق والفوضى والعنتريات التي أساءت كلها الى ثورة شكلت أملا لكثير من اللبنانيين الى أن جاء القرار 1559 ليحرفها عن كل مساراتها نحو فتنة لا يمكن لأي كان أن يتحمل تداعياتها الكارثية.
كل ما يحصل اليوم بإسم الثورة بات مرفوضا وممجوجا ومستهجنا ومستنكرا، لأنه لن يؤدي الى أي تغيير، فلا المواجهات الليلية مع القوى الأمنية أمام سراي طرابلس تنفع، ولا شعور بعض الموتورين بفائض قوة يدفعهم الى اقتحام مؤسسات عامة وخاصة بات مقبولا، ولا الشتائم والسباب بين المناطق والشوارع والمجموعات في بيروت والمناطق يبدل شيئا من الواقع، ولا قطع الطرقات يحرك ساكن لدى مسؤول هنا أو هناك، ولا التحركات الموسمية والمبعثرة والفئوية قادرة على إحداث أي تأثير في الوضع الراهن.
كل ذلك يستدعي وقفة ضمير وطنية، واعادة قراءة الواقع، ومن ثم إحياء التواصل بين المجموعات الثورية في كل المناطق بعد تنقيتها من كل الشوائب وسحب المندسين منها، ووضع مطالب وأهداف وشعارات مشتركة تخدم المواطن اللبناني وتضع سلم أولويات في التعاطي مع السلطة ومواجهتها وصولا الى الاطاحة بها عبر إنتخابات نيابية مبكرة، وإلا فإن “الارتجال الثوري” قد يؤدي الى فتن متنقلة وإعتداءات وتوترات قد تصل بالوطن الى ما لا يحمد عقباه.