وكأنه كتب على شعب لبنان أن يتعايش مع الموت الذي بات خبزا يوميا مرا، الموت بالكورونا، والموت بالتلوث وروائح النفايات، الموت بحوادث السير، الموت بالدجاج واللحوم الفاسدة، الموت على أبواب المستشفيات، الموت بالسلاح المتفلت والاشكالات المتنقلة، الموت إنتحارا، والموت إهمالا، والموت من أجل الثورة، وأخيرا الموت بالانفجارات الناتجة عن مواد كيميائية مخزنة بقرارات رسمية في مرفق حيوي بين الأبنية السكنية في جريمة سيبقى العصر شاهدا على بشاعتها وبشاعة المتسببين بها.
لم يعد هناك من داع لأن يكون للبنان أعداء، فأعداء الداخل “كفّوا ووفّوا” فلو إجتمع كل أعداء لبنان لضربه، لن يستطيعوا إحداث دمار وخراب وقتل وتشريد كالذي أحدثه الانفجار النووي في مرفأ بيروت والناتج عن 2700 طنا من “نيترات الأمونيوم”، بما يعادل إنفجارا بقوة 1200 طنا من المواد الشديدة الانفجار (TNT)، والذي تعلم فيه الحكومة ولم تتخذ تجاهه أي تدبير، ما يشير الى قمة في الاهمال بأرواح اللبنانيين وممتلكاتهم، حيث لا يمكن لمواد خطرة من هذا النوع أن يتم تخزينها في أي مكان من دون أجهزة إنذار أو مطافئ أو عبوات معدة للتبريد تعمل أوتوماتيكيا عند أي طارئ أو أي إرتفاع في درجات الحرارة.
لم تكتف السلطة بجريمتها، بل تعاطت مع تداعياتها الكارثية باستخفاف مستغرب، وكأنها تتلذذ في قتل مواطنيها وتشريدهم، فإقتصر الأمر على زيارتيّ رفع عتب لرئيسيّ الجمهورية والحكومة لمرفأ بيروت، ومن ثم إجتماعات من دون جدوى، وشعر ونثر ولغة خشبية لخُشُب مسندة، ورمي مسؤوليات، وتشكيل لجان، وتخبط في شرح ما حصل، حيث أن اللبنانيين الذين قدموا ما يقارب الـ 150 شهيدا، و95 مفقودا، ونحو 5 آلاف جريحا، وعشرات الآلاف من الوحدات السكنية التي تضررت، وخسروا المرفق التجاري والاقتصادي والمالي الأول في وطنهم، لا يملكون حتى الآن رواية رسمية عما حصل، وعن ماهية الانفجار وأسبابه الحقيقية، والمسؤولين عنه، في حين تعامل مجلس الوزراء مع الكارثة بأضعف الايمان بفرض إقامة جبرية على بعض المسؤولين في المرفأ من دون أن يتطرقوا الى الرؤوس الكبيرة التي تعطي الأوامر وتغطي المخالفات وشتى أنواع الفساد.
لقد فشل العهد ومعه الحكومة في إدارة البلاد، وفي حماية اللبنانيين وفي تأمين العيش الكريم لهم، وفي الحفاظ على ست الدنيا بيروت التي أقفلت أبوابها على موت ودمار ورعب وعتمة وحزن، لذلك من أجل كل شهيد إرتقى، ومن أجل كل مفقود ما يزال تحت الانقاض، ومن أجل كل جريح يرقد على سرير أو ينتظر لايجاد سرير، ومن أجل الأمهات الثكالى، ومن أجل النساء الأرامل والعائلات المفجوعة، والأبنية المهدمة، ومن أجل كل طفل إستوطن الرعب قلبه الصغير، ومن أجل كل عاطل عن العمل، ومن أجل كل فقير، ومن أجل كل جائع، ومن أجل كل مقهور، ومن أجل كل ذليل على أبواب مصرف أو فرن أو صيدلية أو محطة وقود، ومن أجل كل اللبنانيين، ومن أجل إنقاذ لبنان، إستقيلوا.. وإرحلوا غير مأسوف عليكم".