تتمتع قلعة حلب بمكانة أثيرة في نفوس أهل المدينة، و يمتدّ تأثيرها ليأخذ بإعجاب العابرين من زوّار و سيّاح. هذه القلعة التي تتربع على هضبة مرتفعة تتوسط مدينة حلب، و تتميز بأنها سجلّ تاريخي شهد حقباً من أيام المدينة على مرّ عصور، و تتميز أيضاً بأسلوب عمارتها الجميل المشهور عالمياً، و تطلّ على مدينة حلب أسواقاً و آثاراً و حدائق و أحياء شعبية و حديثة.
و تتجلى مكانة قلعة حلب في الإبداع القصصي السوري المعاصر، في نماذج عدّة، منها القصص الثلاث : " أيها القادم الجميل " لوليد إخلاصي، من مجموعته " الأعشاب السوداء ـ 1980 "، و " سهرة " لشهلا العجيلي، من مجموعتها " المشربية ـ 2005 "، و " على أهبة الحب " لغفران طحان، من مجموعتها " كحلم أبيض ـ 2009 ".
القلعة و الزمن :
ينشغل السارد في قصة " أيها القادم الجميل " لوليد إخلاصي بالزمن الماضي، و تقترن قلعة حلب في مخيلته بحبيبته عائشة، فالرجل الذي فقد زوجته إثر حادث مفاجئ، يبقى أسير الماضي. إذ يطلّ طيف زوجته في كل زاوية و كل حين، حتى حين يكون مع عائشة، فهو يشفق عليها من ذكرياته و حنينه إلى ماضيه " و الآن عليّ أن أعترف بحقيقة اكتشفت أنها تعيش في داخلي مخيفة، و هي خوفي من أن أفقد عائشة فيما لو تزوجت منها كما فقدت زوجتي من قبل ". و من اللافت أن قلعة حلب تؤدي دوراً إيجابياً في انتشال الرجل من خواطره و من هواجسه أيضاً، ففي بداية القصة، يخيّل إليه أنه يرى رجلاً وسيماً يلُوح أمام القلعة، ثم إنه يشاهد هذا الرجل الوسيم في المقهى، و يكتشف لاحقاً بأنه تجلٍّ لملك الموت يختطف شلّة الرجال المتقاعدين في المقهى، واحداً إثر الآخر، يوماً بعد يوم. إنّ هذا التخييل في شخصية الرجل الوسيم، يرمز إلى هاجس الموت المبهم، الذي يسيطر على السارد منذ موت زوجته، و إلى عدم قدرته على الفكاك من التفكير فيه و الخوف منه، فمن الواضح أنه ينكفئ عن الحياة و النظر إلى المستقبل بسبب التوجس من المجهول " و شيئاً فشيئاً كانت عائشة تعود إليّ. و أحسست بحب عظيم للمدينة التي كنت أتصور أنها لن تعرف الموت أبداً. و كنت أفكر بالأيام القادمة ". و لكن منذ أن أخذ السارد يتجول حول قلعة حلب مع عائشة، لم يعد الرجل الوسيم يظهر في محيطها، بل إن عائشة صارت تشغل مساحة أكبر من الأمل بالغد، و تمتزج بجمال المدينة، و ببهاء القلعة، " و القلعة كانت وجوداً، و تعانقت يدانا أملاً، خطوة فخطوة حول القلعة في الظلام الشفاف، و تتوهج نقاط صغيرة في الداخل، و أحس بما تحت جلد عائشة فأتطلع إلى بطن القلعة المليء بالأسرار و الزمن "، و في كل مرة كان السارد يشعر بأنه يقترب أكثر من الإقبال على الحياة، و من نسيان المقهى بما فيه من إيحاءات الماضي.
أما قصة "سهرة" لشهلا العجيلي، فيستولي فيها الزمن الراهن على اللحظات كلها، و تحتوي القلعة حيوية الساردة و أملها في أن تلفت انتباه الرجل الذي تحب، و أن يكون لقاء القلعة و حضورهما المشترك في حفل الطرب مقدمة لأيام آتية تعد بالحب و السعادة؛ " كنت واثقة من أنك ستكون هناك، أجل لا بدّ أن تكون، القصائد و الموشحات و المواويل، شيخ الطرب و قلعة حلب ! أعرف أنك تعشق كل ذلك، أليس الأدب حرفتك و الفن عالمك ! " و يتركّز الحدث الأساسي في حماسة الساردة أثناء الحفل، لا لمتابعة شيخ الطرب و الانبهار بأدائه مترافقاً بالألحان فحسب، و إنما لترقّب حركة الرجل و التفاتاته من موقعه في الصفوف الأمامية " جلستُ حيث أشرف عليك، و حيث تضطر للالتفات كي تراني، عندها أعرف أنك تتقصد النظر إليّ. لم يهدأ رأسك لحظة، كنت تبحث عني ". إن القصة كلها تسير قدماً نحو ما يعتقد المتلقي أنه تحقيق أمنيات الساردة و حلمها باللقاء المنشود "غداً، متى يأتي غداً، سنتكلم على كل شيء من اللحظة التي قررتَ فيها حضور الحفلة "، و لكن أفق التوقعات ينكسر تماماً حين تكتشف الساردة في اليوم التالي أن زميلها في العمل لم يكن هو من رأت في الحفل، بل إنه لم يكن ليكترث بالفن و الطرب و القلعة ! " هه ! و من قال لكِ بأنني من عشاق شيخ الطرب لأتكبّد مشقّة القلعة و درَج القلعة و أسهر حتى الصباح أسمع عجوزاً تكاد تخرج روحه مع كل آه ".
تَنظر قصة " على أهبة الحبّ " لغفران طحان إلى المستقبل، فمنذ البداية تتوق الساردة إلى موعد قادم تلتقي فيه حبيبها " يومها قلت له : أين أراك ؟!! قال : في جميع الأمكنة... فمنذ أن بحت لهذه المدينة بحبي لها، صارت تدعوني بتواطؤٍ صامتٍ لقضاء ليالي الحب أنّى شئت فيها ! " و إذ لا تحصل على إجابة محددة، فهي تقرر أن تكتشف بنفسها جمال المدينة التي تشترك مع حبيبها في الانتماء إليها " كانت مدينتي أيضاً، و لكنني لم أرها كما وصفها يوماً... كان يقول و شوق مغتربٍ لسنين طويلة يسكن فيه : أُحبها كما لم يحب أحد... دققي الإحساس فيها... تابعي تفاصيلها... سترين الحنان ينضح من كل جزءٍ فيها ". و يصل بها المطاف إلى قلعة حلب، المكان الذي قلّما نسائل أنفسنا عن مكانته الحقيقية عندنا، فهو على الرغم من ألفته الشديدة يستحق الاكتشاف مرة بعد مرة، و هذا ما قامت به الساردة. إذ أخذت تطوف بالقلعة، منذ الصباح الباكر، تستطلع أبهاءها، و تتأمل أبعادها و أسوارها، و تعانق حجارتها التي يفوح منها عبق التاريخ " السيّاح يتجمّعون حولي، و يلتقطون الصور... و هم مستغربون من ذلك التآلف الغريب بين لون الحجارة و لون بشرتي... بين شموخها و بين ما يفيض به جسدي من كبرياء ". و هي تمعن في التوجه نحو المستقبل، فتتخذ مهنة جديدة هي الدليلة السياحية في المنطقة، تحيي التاريخ بمنحه إمكانية السفر عبر الزمن و المكان إلى عقول و قلوب روّاد المكان، و لتكون على أهبة الحب و الاستعداد للقاء حبيبها و حبيب القلعة، " وقف لدقائق يحدق بي و كأنه لا يعرفني... بينما كنت أتشاغل عنه بشرح تفاصيل التاريخ لبعض السياح... فقد أضحى هذا عملي منذ أن تركني قبل ثلاثة أشهر على أهبة الحب ".
القلعة و اكتشاف الآخر :
يشكّل الآخر/ الرجل محور الاهتمام في القصص الثلاث، ففي قصة " أيها القادم الجميل " يكون السارد قلقاً بشأن الرجل الوسيم الشاب الذي أطلّ من جهة القلعة، ثم صار يبرز خفية من باب المقهى الذي يتردد عليه. و قد استغرق السارد فترة حتى ينسى هذا الرجل، الذي هو صدى لأفكاره السوداوية حول الموت، و يستبدله بالفرح و الحلم بالمستقبل مع الحبيبة عائشة " عن بُعد كانت عائشة تتقدم فتهللت لها بشراً، و في الطرف المقابل كان القادم الجميل يقف تحت عمود للنور محدقاً و عيناه ترسلان إحساساً بالجذب لا يقاوم. ظلت قدماي ملتصقتين بالأرض زمناً رجراجاً و كأنني أتمايل بين قطبين هما عائشة و الرجل الجميل ". و كانت قلعة حلب معيناً له على الانتقال من الخوف من الرجل الوسيم، إلى الاطمئنان إلى عائشة.
و في قصة " سهرة " شكّلت الأجواء الطربيّة الساحرة في قلعة حلب عاملاً مخاتلاً، جعل الساردة تقع تحت تأثير تهويمات أفكارها و أحلامها بلقاء من تحب، ففرضت تخيّلاتها نفسها على الواقع، و بات الحلم هو الأساس أما الواقع فإطارٌ هشٌّ له. و قد انقلب الأمر في اليوم التالي، ففي النهار كشفت أوهام الليل، و بدت حقيقة أن الساردة عاشت ما هو أشبه بالحلم من الواقع.
سعت الساردة في " على أهبة الحبّ " إلى الاكتشاف، و لكنه كان مغايراً لما في القصتين السابقتين، في أنها اتجهت إلى الرغبة في معرفة سرّ القلعة الذي يجعل حبيبها مأخوذاً بها، و عاشقاً لمدينته حلب. و لذلك كانت النتائج التي تتوصل إليها أقرب إلى اليقين، فالرجل غائب في كل القصص عن القلعة، و إن حضر فهو حضور جزئي متخيل في النفس. و من ثنائية الحضور و الغياب وطّدت الساردة حضور حبيبها في روحها رغم غيابه و سفره، و حضور مدينتها في شخصها و حياتها التي تصل الماضي بالمستقبل.
السرد و التماهي بالقلعة :
يتيح السرد لشخصيات القصص فرصة للتماهي مع قلعة حلب، و هم في المحصّلة يصبحون جزءاً من القلعة بشكل مباشر أو غير مباشر. فالسارد في " أيها القادم الجميل " يجعل من حبيبته عائشة و القلعة شيئاً واحداً، و هما تشتركان في العديد من الصفات. و من الملحوظ أن حبّ القلعة الذي يسكن السارد، يقوده إلى إسباغ الصفات المحببة رقّةً و جمالاً على عائشة. أما الساردة في " سهرة " فتُعايش الحفل الطربي، و تنفعل معه حباً و بهجة إلى الدرجة التي تنسى فيها نفسها، و يصبح حلم اليقظة سيد الموقف، و تخلو الساحة للتهيؤات بكل ما هو بعيد المنال، و حلم أثير. فكأنّ الساردة تتحول إلى لحن من الألحان أو بيت من الشعر المغنى تستحضره إلى اللحظة الراهنة كي تعيشها بكل بهائها، " و أمتدّ بين ضفاف وجودك و ضفاف ذلك الصوت، شيخ الطرب : جلّ من قد صوّرك / بدر من ماء و طين / و جعل في منظرك / بهجة للناظرين ".
و يتحقق الأمر ذاته في قصة " على أهبة الحب "، فحضور الحبيب لا يتعدى لحظات ماضية قليلة، يتلوها زمن مفعم بالانتظار و الغياب، و يكون مفتاح الشوق هو تماهي الساردة مع القلعة و محيطها من الأحياء الشعبية " في الصباح سابقت ذلك البريق لتقبيل جوانب الحارات القديمة التي يسكن إحداها "، و الامتزاج بتراث المدينة وصولاً إلى حقيقة عمق الانتماء الذي تحسّ به و تختبره بالتجربة التي تعطي معنى جديداً لوجودها و حياتها.