قلعة الفصول الأربعة
ـ قصة للأطفال ـ
بقلم : علياء الداية رسوم : نجلاء الداية
الحلقة الأولى :
كان وليد يستمتع بالتجوّل في الريف الجميل، و كما يحصل في العديد من القصص، فإن وليد ابتعد قليلاً عن البيت الريفي الذي جاء إليه مع أهله لقضاء العطلة، ثم ابتعد أكثر فأكثر، فأضاع الطريق.
لم يعد المكان من حول وليد ريفاً، بل إنه الآن غابة، أشجار و أشجار و أشجار، ينظر وليد إلى الأعلى، فلا يستطيع رؤية الشمس لشدّة ارتفاع الأغصان و كثافتها. يحسّ وليد بالخوف، و لكنه يشعر بالسرور لأنه لم يكن يظنّ أن في بلده مكاناً رائعاً كهذا. هذه مغامرة مميزة، و حين يعود إلى البيت، و يذهب إلى مدرسته، سيروي لأصدقائه أنه سار وحيداً في غابة حقيقية، كالتي يشاهدها في أفلام السينما، و يقرأ عنها في الكتب.
بدأ وليد يشعر بالرطوبة، و شيء من البرد، استدار حول نفسه و هو يتأمل الجهات الأربع قائلاً : " من أي طريق أسير ؟ لن أبقى هنا إلى الأبد طبعاً، يجب أن أعود إلى البيت. " و يفكّر وليد أن الشمس لا بد أنها في وسط السماء، و لذلك فهو لا يستطيع تحديد الشرق أو الغرب. و أخيراً يقول لنفسه : " أنت في ورطة يا وليد ! "
يقرر وليد أن يمضي في اتجاه واحد، خط مستقيم، لا بد أنه سيوصل إلى مكانٍ ما، لقد قرأ هذه القاعدة في أحد الكتب. يمشي وليد و يمشي، و يفكّر أن حذاءه قد يهترئ من المسير الطويل، ماذا سيلبس في قدمه ؟ سيضطر إلى صناعة حذاء من أوراق الأشجار، أو من الخشب مثلاً. يفطن وليد إلى أنه يسرح بخياله بعيداً جداً، و أنه قد لا ينجو من هذه الغابة التي لا تبدو لها نهاية. و فجأة، يجلس على الأرض، تتساقط دموعه، و يبدأ في البكاء. لقد أصبح، ببساطة، جزءاً من حكاية الغابة التي سيحكيها لأصدقائه، و لكنه الآن لا يرغب في أن يكون حكاية، يريد أن يكون وليد فقط، أن يكون هذا كابوساً، و أن يجد نفسه في البيت، على مائدة الغداء مع والديه و إخوته، و أن ينظر من النافذة ليشاهد الريف الجميل، البسيط، حيث لا توجد أية غابة، و لا أشجار عالية.
يتطلّع وليد إلى الأعلى من جديد، و يفكّر أن من الأفضل له أن يواصل السير، لعلّه يصل إلى مكانٍ ما، قبل أن يعمّ الظلام. يتفقّد وليد ساعة هاتفه الجوّال، إنها الثالثة عصراً، مازال هناك وقت. أما الجوّال نفسه فهو لا يعمل، فالمنطقة الريفية التي يسكنونها تعاني بالأساس من ضعف التغطية، فما بالنا بهذه الغابة !
و كما في الحكايات، وجد وليد الأشجار تنحسر شيئاً فشيئاً، حين وصل إلى فسحة من الأرض، يكسوها العشب الأخضر الندي، الممتد، تحيط به الأشجار، كأنه واحة، و لكن ليس في الصحراء، إنما في بيئة أخرى. و لكن... ما هذا ؟ بناء كبير ينتصب في الطرف الأيسر من الفسحة، كأنّ أشعة تنبعث منه. " أخيراً، وصلتُ إلى مكانٍ ما، لعلني أجده مأهولاً بالناس ". و يفكّر وليد : " الناس ؟ طبعاً، ماذا إذن ؟ هل يعقل، بما أنني في مكان يشبه الحكاية، أن يكون مأهولاً بكائنات غير الناس ؟ ماذا عساها تكون ؟ " يشعر وليد بالخوف يتسلل إليه، و لكنه لن يبقى وحيداً، سيواجه ما أمامه و يكتشف.
حين يقترب وليد من البناء، يرى أنه قلعة، و أنها، و يا للدهشة، قلعة متغيّرة الفصول، أجل، بين كل رمشة أو غمضة عين، يتبدّل حال القلعة، فتارةً هي في فصل الصيف، تحيط بها الأشجار المثمرة، و تغرّد فيها العصافير، و يهبّ فيها الهواء الحار، و تترقرق مياه النهر بخفة. و تارةً هي فصل الخريف، رياح تتطاير معها أوراق الأشجار المصفرّة، و الأشجار قد فقدت معظم أوراقها، و النهر معكَّر الماء. و تارةً ثالثة يهبّ فصل الشتاء، ثلوج يكاد وليد يمسك بندفها البيضاء، و النهر متجمّد، و الأشجار جرداء كأنها يابسة، و البرد يعمّ المكان. و تارةً رابعة تهفّ روائح الورود الشذيّة، و الأشجار تزينها عناقيد من الأزهار الملونة، و الأغصان ذات الأوراق اليانعة الخضراء، و النهر مياهه تعكس زرقة السماء البهية، و الدفء يغمر المكان. يقرر وليد الاقتراب أكثر، و دخول القلعة، و مع اقترابه أكثر فأكثر تخفّ وتيرة تَحوّل الفصول، و يجد نفسه في فصل الصيف الذي كان فيه أثناء وجوده مع أهله، و في الغابة لاحقاً.
المكان يبدو بسيطاً، و لكنه ليس مألوفاً، هناك شيء غريب. يجد وليد أمامه باباً خشبياً كبيراً، يدقّ عليه بقبضته، لا أحد يجيب، يدفعه دفعاً خفيفاً، فيصرّ منفتحاً، و يدخل وليد إلى القلعة. يجد نفسه في قاعة كبيرة مضاءة بأنوار كثيرة، فالنور الآتي من النوافذ لا يكفي وحده. يتلفّت حوله، و يأخذ برؤية الناس الموجودين هنا.
ضيف جديد ! تصيح فتاة تقف إلى جوار وليد. فيلتفت إليها قائلاً :
ـ كِدت تثقبين طبلة أذني بصراخك !
فتبادله ابتسامة تظهر فيها أسنانها الناصعة، و يتنبه وليد إلى شعرها البنفسجي الغريب. و يكون أول سؤال يخطر في باله :
ـ شعر بنفسجي، كيف سمح لك أهلك بصبغه بهذا اللون الغريب !
فتجيبه :
ـ أهلي ؟ أهلي ليسوا هنا، أنا أصبغه باللون الذي أشاء.
يعتقد وليد أن الفتاة غريبة الأطوار، و لكنه يسأل :
ـ ما اسمك ؟
ـ سالي.
و هنا يأتي رجل يحمل كتاباً بيده، مستطلعاً ما يجري. فيهرع إليه وليد هرباً من سالي :
ـ مرحباً يا أستاذ، اسمي وليد، و قد أضعت طريقي في الغابة، و...
ـ لا تكمل، أعرف هذه القصة، إنها نفسها لدى كل من يصل إلى هذا المكان.
ـ هل هذا فندق ؟ استراحة ؟ و لماذا لم تعد سالي إلى أهلها ؟ لا يمكن أن تبقى هنا إلى الأبد.
ـ بل هذا ممكن، أو بالأحرى يا وليد، هذا ما يحصل هنا، نحن جميعاً أسرى المكان، إلى الأبد.
ـ ما... ماذا تقول يا أستاذ... ؟
ـ أستاذ فيصل.
لم يكن تردد وليد بسبب رغبته في معرفة اسم الأستاذ، بل لدهشته.
ـ حسناً، أستاذ... أستاذ فيصل، آ... طيّب... القلعة... هناك فصول أربعة، الصيف، و...
ـ اسمع يا بني، انتظر هنا في الصالة، بقي ربع ساعة على انتهاء الحصة، سأعود إليك. و أنتِ يا سالي، سأسمح لك هذه المرة بالجلوس، تحدثي مع وليد، و لكن من دون صراخ.
و عاد الأستاذ فيصل أدراجه إلى الصف، على يمين الصالة.
ـ ماذا يجري هنا ؟ يسأل وليد.
تجيبه سالي :
ـ هل أنت جائع ؟ تعال إلى المطعم قبل أن يزدحم بالتلاميذ الخارجين من الصف إلى الفرصة.
" درس، فرصة ! هل عدنا إلى المدرسة ؟ ". يفكّر وليد بأسى، هل انتهت العطلة الصيفية بهذه السرعة ؟ و لكنه يذهب مع سالي إلى المطعم، و يبدآن بالحديث.
تحدّثه سالي عن أن هذه القلعة عبارة عن مكان عجيب، بالأحرى قالت سالي إنه مكان مسحور، و لكن وليد كان يعتقد بأنها فتاة غريبة بعض الشيء، لذلك قد تتكلم بأفكار خيالية لا تناسب العصر الذي نعيش فيه ".
" و لكن يا سالي، نحن الآن في القرن الحادي و العشرين، كما نعلم ذلك جميعاً في المدرسة، الأماكن المسحورة موجودة في الحكايات فقط" .
تقضم سالي جزءاً من الشطيرة و تقول له :
ـ في الحكايات، و في هذه القلعة أيضاً، صدقني.
ـ ألا يوجد هاتف هنا ؟
ـ لا.
ـ إنترنت ؟
ـ لا، لا، مطلقاً.
ـ ماذا يوجد إذن ؟
ـ لا شيء.
ـ لا شيء ؟
ـ يوجد مطعم و شطائر، و أستاذ فيصل يدرّسنا العلوم، و الأستاذ خليل يدرّسنا اللغة العربية، في الواقع هو يحكي لنا القصص و الحكايات و الأساطير في أغلب الحصص، يقول إن لدينا وقتاً طويلاً نقضيه هنا، و لا مانع من أن يكون خيالنا واسعاً إلى جانب إتقان اللغة.
ـ اللغة العربية فقط ؟
ـ أجل، فالأستاذ فيصل يدرّسنا العلوم و اللغة الإنكليزية.
ـ حسناً، سأختار أن أحضر الدروس لدى الأستاذ فيصل.
ـ لا تستطيع ذلك، يجب أن تحضر كل الدروس.
ـ ما هذا المكان الغريب ! سأخرج من هنا.
و تنطلق سالي في قهقهة عالية، و يرنّ جرس الفرصة، و ما هي إلا ثوانٍ حتى يجد وليد نفسه في المطعم محاطاً بحوالي ثلاثين تلميذاً.
و هكذا يجلس الجميع، و يجد وليد صعوبة في استيعاب ما يحصل، و لكنه يبذل جهداً حتى يعرف سمات المكان الذي وجد نفسه فيه.