الارشيف / ثقافة و فن

قلعة الفصول الأربعة - الحلقة الثانية

قلعة الفصول الأربعة

ـ قصة للأطفال ـ

 

بقلم : علياء الداية                                          رسوم : نجلاء الداية

 

الحلقة الثانية

 

هذا مكان مسحور بالفعل، قلعة مسحورة خارجة على الزمان و المكان، لا يستطيع الموجودون فيها معرفة الزمن إلا من خلال الالتزام بتقويم يُعِدُّه الكبار كل شهر و يتأكّدون من مقاييسه. و من باب الحيطة يسألون كل قادم جديد عن اليوم الحالي، أو السابق. و هذا ما حصل مع وليد، و شعروا بالسرور لأن توقيتهم كان صحيحاً.

يسأل وليد بدهشة :

ـ كم مضى عليكم هنا ؟

ـ أوّل الواصلين إلى المكان هو الكابتن جلال. لقد مضى عليه عام كامل.

ـ عام كامل ! ياه... سأمضي هنا عاماً كاملاً ؟ لا أستطيع، أخرجوني من هنا.

ـ هذا غير ممكن، لم يستطع أحد الخروج. إذا سِرتَ خارج القلعة، يميناً أو يساراً، شرقاً أو غرباً، فسوف تعود من حيث أتيت. الكثيرون جرّبوا و اكتشفوا أنهم يسيرون في حلقة دائرية. حتى إننا صرنا نلعب هذه اللعبة أحياناً. إنها كالبحر، يطفو عليه كل شيء و لا يغرق !

ـ و لماذا اسمه الكابتن ؟

ـ لأنه كان حارس مرمى أحد الفرق الرياضية الشهيرة.

ـ أنا أحب الرياضة، أين الكابتن جلال ؟ أرغب في رؤيته.

و ينتاب الوجوم ملامح الجالسين :

ـ الكابتن جلال لا يتحدث مع أحد، إنه جالس في غرفته و يعاني من الكآبة بسبب طول مدة بقائه هنا.

ـ و ماذا يفعل الأستاذ فيصل و الأستاذ خليل ؟

ـ إنهما يدرّساننا الكثير من الأشياء، يعتقدان أنها أفضل من البقاء من دون شغل. و يظنان أننا سنستفيد من المعلومات التي نتلقاها. على الأقل، نحن نستعين بها من أجل مساعدة الكبار في جمع الطعام و الطبخ، و ترتيب المكان بشكلٍ دائم.

و بعد انتهاء الحصة التالية، جلس وليد مطوّلاً مع باقي التلاميذ، و حاول أن يستوعب ما يجري، و هيّأ نفسه لقبول واقعه الجديد.

هناك ثلاثة أجيال في القلعة، الأطفال و الكبار و كبار السن، و مع أن وليد لا يعتبر نفسه طفلاً، فإن هذا أفضل تصنيف ممكن. كبار السن عددهم قليل جداً، أما الكبار فحوالي عشرين شخصاً، و الأطفال حوالي الثلاثين. كبار السن بارعون في سرد الحكايات، و إسداء النصائح، و تقديم الخبرة في معالجة الأمور. أما الكبار فكان منهم الطبيب و المعلّم و الخبير التقني و بعض أصحاب المهن، و المزارعين، و الطباخ، و بعضهم يتمتّع بعدة مهارات معاً.

كان وليد يقضي وقته بين الدراسة، و جمع الفطر و جني بعض المحاصيل البسيطة التي تمّت زراعتها قرب القلعة، بما أن الطقس مستقر داخل القلعة و ليس كما يبدو من خارجها. و اللافت أن وليد لم يستطع الخروج من القلعة، و لم يستطع أن يراها على شكل فصول أربعة متوالية كما رآها لأول مرة.

كثيراً ما كان وليد يفكّر :

ـ هل أنا في حلم طويل ؟ هل سأستيقظ لأجد نفسي في البيت ؟ هل كان عليّ ألاّ أدخل الغابة ؟ و لكن ليست كلّ الغابات كهذه. هذا ليس ذنبي.

و ينظر وليد إلى السماء :

ـ ليتني أستطيع الطيران فأغادر هذا المكان.

تقرأ سالي أفكاره فتباغته قائلة :

ـ لا أحد يستطيع الطيران.

يقفز وليد من مكانه :

ـ متى جئت إلى هنا ؟ لم أشعر بك، لماذا غادرت المطعم ؟ ألم تكوني هناك ؟

ـ بلى، و لكني أحب التجول الدائم هنا و هناك. على فكرة، كان الكابتن جلال أول من فكر بمحاولة الهرب، و لكن كل جهوده باءت بالفشل.

ـ كل جهوده باءت بالفشل !

ـ كل جهوده باءت بالفشل !

ـ هل تعجبك العبارة كثيراً إلى درجة تكرارها ؟

ـ أنت من كررها أولاً ! اسمع، لقد فكّر الكابتن جلال بالقفز من غرفته العالية، إنها تعتبر سقيفة القلعة، إلى الأسفل، إلى النهر.

ـ لماذا ؟

ـ كان يعتقد أن  النهر سحري، و أنه سيتمكن من السباحة فيه إلى خارج القلعة.

ـ و ماذا حصل ؟

ـ ماذا حصل !

ـ ها أنت ذي تكررين العبارة من جديد، نعم أنا أسأل ماذا حصل !

ـ لم يحصل شيء، لقد فزع من رؤية النهر، و خشي الهلاك في هذه المحاولة. ثم إننا قمنا بتجربة، وضعنا سفينة ورقية في النهر، و حملتها أمواجُ النهر بعيداً بعيداً، و لكن في صباح اليوم التالي وجدنا السفينة في المكان الذي وضعناها فيه.

ـ شيء مؤسف. يا لها من خيبة.

ـ أجل، خيبة.

ـ خيبة...

ـ أجل...

ـ حسناً، يا لها من خيبة، و الآن، سنفكر بطريقة جيّدة للهرب.

ـ لماذا أنت مولع بفكرة الهرب ؟ الحياة هنا جميلة، لا يوجد مدرسة، مجرد درسين في اليوم، أنت تأكل في الوقت الذي يعجبك، و لا تَضيع مهما ابتعدت في جولتك، فالطريق يعيدك إلى البيت.

ـ البيت ؟ تسمين القلعة بيتاً ؟

ـ القلعة، البيت... المهم.

ـ و تصبغين شعرك باللون البنفسجي الذي تحبينه.

ـ آه، أجل، كم هذا رائع.

يبتعد وليد و هو يفكّر بأن هذا كله أمر سخيف، خصوصاً أن لا يد له في موضوع القلعة، و الفصول الأربعة، و الأستاذ فيصل، و الأستاذ خليل، جميعهم. يتذكر كيف أنه حاول أن يفتح موضوع الهرب من القلعة مع الأستاذ خليل أولاً، ثم مع الأستاذ فيصل، و لم يستفد شيئاً، كلاهما كان يائساً، أخبراه أنهما قاما بتجارب عديدة، ليلاً و نهاراً، من دون جدوى.

ـ هل سننتظر معجزة لنخرج من هنا ؟

ـ المكان السحري يحتاج إلى معجزة، نعم يا وليد، هذا لبّ القول !

ـ المكان السحري يحتاج إلى معجزة !

 

 

مضى شهران، و شيئاً فشيئاً، تلاشى اهتمام وليد بالمكان، و الزمان، و باختصار، صار مهملاً في دروسه، و هو الذي كان تلميذاً مجدّاً في مدرسته، صار يتعرّض في القلعة عدة مرات للطرد من الحصة. طرده الأستاذ فيصل مرتين، فقد كان شروده يُكتشف بسهولة في حصة الرياضيات أو العلوم، أما في حصة الأستاذ خليل، فكان انشغال الأستاذ بحكاياته و قصائده يتيح فرصة كبيرة لوليد للاستغراق في أفكاره، حتى إنه كان يَعدّ الغيوم القليلة التي بدأت تلوح في سماء الخريف. و لكنه أخيراً تعرّض للطرد حتى من حصة الأستاذ خليل، و وجد نفسه يقف خارج الصف، و إلى جانبه " سالم " الذي اشتهر بكونه تلميذاً كسولاً يقضي أغلب وقته مطروداً من الحصص، كما أنه كان لا يشارك في جمع الفطر أو زراعة المحاصيل أو حتى قطف الثمار الناضجة. و كان في وقت الطعام يجلس وحده لأن الجميع يعتبرونه مقصّراً و مهملاً.

يفكّر وليد : " هل سأصبح مثل سالم ؟ ليست هذه فكرة جيدة. و لكن ماذا أفعل، لقد بدأتُ أكره هذا المكان، و لا أرغب في فعل شيء" .

و ينظر وليد بطرف عينه إلى سالم : " لم يسبق لي أن تحدثت معه، و لكن، ماذا أخسر من بضع كلمات ؟ "

ـ مرحباً.

ـ...

ـ هيه، سالم.

يلتفت إليه سالم بدهشة :

ـ هل تكلمني ؟

ـ أجل.

ـ حسناً، مرحباً إذن.

يلتفت وليد خلسة و ينظر من لوح الزجاج أعلى باب الصف المغلق، يتأكّد أن لا أحد ينظر إليه، الكل مشغول بالدرس :

ـ هل أنت سعيد ؟

ـ لا، أنا سالم.

ـ ها ها ها، و يكتم وليد ضحكته ثم يقول :

ـ هل أنت سعيد بالحياة هنا ؟

ـ ماذا أستفيد إذا كنت سعيداً أم لا ؟

ـ هل نستطيع الخروج من هذا المكان ؟

ـ هذا يتوقّف على قوة إرادتك.

ـ ماذا تقصد ؟

ـ الأمر يحتاج إلى عضلات.

ـ عضلات ؟

و يفكّر وليد أن سالم هو ثاني شخص غريب الأطوار يلتقي به هنا، بعد سالي.

يبادره سالم :

ـ هل أنت مستعد ؟

ـ لأي شيء ؟

ـ لإدارة الدفة.

ـ أية دفّة ؟ هل تظن نفسك في سفينة ؟

ـ بل هي أكبر من سفينة.

و يتذكّر وليد الجَمَل الذي يُسمّى " سفينة الصحراء "، فهل هناك " سفينة الغابة " ؟

يقول له سالم :

ـ سنذهب نحن الثلاثة معاً في الليل إلى المكان المطلوب.

ـ المكان المطلوب ؟ أي مكان ؟ ثم أي ثلاثة ؟

و يفكّر وليد أن سالم مهمل فعلاً، لقد نسي الحساب إلى درجة أنه يخطئ في عدّ أرقام بسيطة.

ـ يا سالم، أنا و أنت، واحد زائد واحد يساوي اثنين، و ليس ثلاثة.

ـ و لكنك نسيت سالي.

ـ سالي ! ما شأن سالي بنا ؟

ـ لقد اطلّعَت على السر !

ـ أي سرّ.

ـ سرّ الدفّة.

ـ الدفّة ؟ في الليل. المكان المطلوب، هه ؟

ـ نعم، بالضبط.

و يصافحه سالم يلتمع في عينيه السرور :

ـ لنتّفق قبل أن ينتهي وقت الحصة و يخرج التلاميذ، سننزل إلى القبو نحن الثلاثة في الليل، الساعة العاشرة.

ـ و لكن ماذا يوجد في القبو غير أكياس المؤونة و الخضار المجففة ؟

ـ سنلتقي عند مدخل القبو.

ـ و لكن....

و يرن جرس الفرصة و يخرج التلاميذ، و يذهب سالم إلى أقصى الصالة، و يمضي وليد إلى المطعم.

*** 

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

قد تقرأ أيضا