الارشيف / ثقافة و فن / في الفن

"سكر مر" وثلاث خطوات للأمام بعد "سهر الليالي"


أفضل وصف قرأته للدور الذي لعبه فيلم "سهر الليالي" للمخرج هاني خليفة، أنه العمل الذي أشعل "ثورة تصحيح" لمسار السينما المصرية، بعد "ثورة المضحكين الجدد" التي حركها محمد هنيدي داعماً في "اسماعيلية رايح جاي" ثم بطلاً في "صعيدي في الجامعة الأمريكية.

في الفترة بين عامي 1998 و2003 كانت الكوميديا "النظيفة" هي كلمة السر. معادلات السوق تغيرت وصار الأمر الطبيعي هو الرهان على نجم شاب في فيلم كوميدي ذي خط رومانسي، خالي من القبلات أو العلاقات المركبة، أو أي شيء قد يزعج أسرة الطبقة الوسطى التي اكتشف المنتجون والموزعون أن مغازلة قناعاتها الأخلاقية هي الوسيلة الأمثل للانتقال بالإيرادات من خانة الآلاف إلى الملايين.

لم يكن عرض "سهر الليالي" جماهيريا أمرا يسيرا، بل أذكر أن الفيلم ظل فترة طويلة جاهزا ومنتظرا لقرار العرض، في ظل تخوّف الموزعين من فتور متوقع للاستقبال. حتى خرج الفيلم للنور في يوليو 2003، ليأتي نجاحه، النسبي قطعا بالمقارنة بأعمال من نوعية "اللي بالي بالك" و"التجربة الدنماركية"، ليؤكد مسار التصحيح. أن هناك طرقاً أخرى لصناعة سينما حقيقية تمس حياة البشر وعلاقاتهم ببعضهم، من الممكن أن تتواجد وتنجح وتنال حفاوة نقدية وجماهيرية، دون أن تغازل قناعات بعينها أو تروج لنماذج وأحكام أخلاقية بشكل مطلق.


12 سنة كاملة مرت منذ عرض "سهر الليالي"، تنقل بعدها مؤلف الفيلم تامر حبيب بين السينما والتلفزيون في تجارب عديدة، رسخت اسمه كواحد من أهم كُتاب دراما العلاقات ـ وليست الرومانسية فقط ـ في الجيل الحالي، إن لم يكن أهمهم على الإطلاق. بينما انتظرنا طويلا جدا كي نشاهد عملاً جديداً للمخرج هاني خليفة، حتى خشينا أن ينضم إلى قائمة طويلة من موهوبين صنعوا "بيضة الديك" يوماً ثم تسببت خشيتهم من تعثر الخطوة التالية في غيابها من الأساس.

هاني خليفة عاد بفيلمه الثاني "سُكر مُر"، مع مؤلف شاب هو محمد عبد المعطي ـ فيلمه الثاني أيضا بعد تجربة متعثرة في "المهرجان" 2014 ـ ومع معادلة درامية تبدو للوهلة الأولى محاولة لتكرار خلطة فيلم خليفة الأول. رقم زوجي من الممثلين والممثلات، ومشكلات عاطفية تدور حولها أحداث الفيلم: خيانة، فتور عاطفي، حب من طرف واحد، وارتباط بدافع المصلحة. الأمر يذكرك بسهر الليالي؟ هو كذلك، لكن لا تنس أنها تيمات عامة جدا، التفكير في أن تواجدها في فيلمين هو تكرار للذات أمر يبدو منطقيا أشبه باتهام جميع الأفلام الرومانسية في التاريخ بالتقليد. فما الفيلم الرومانسي إلا حكاية عن شخصين يبحثان عن الحب فيتعرضان لمشكلات وعوائق؟!

المعطيات إذن يمكن أن تؤدي لكافة الاحتمالات: فيلم مختلف كليا، نسخة باهتة من العمل الأول، أو ما بينهما. وتقييمي الشخصي أنه الاحتمال الثالث هو ما حدث بالفعل. هاني خليفة صنع نسخة مطوّرة من فيلمه الأول. نسخة تليق باثنتي عشرة سنة مرت، تغيرت فيها بالتأكيد نظرة المخرج للعالم وللعلاقات ولأدوات الصنعة، مع احتفاظه بالسمات العامة لسينماه وعوالمه المفضلة، وهو أمر يوضع في كفة المزايا لا العيوب. وإذا حاولنا أن نضع يدنا على السمات الثلاث لتطور سينما هاني خليفة من "سهر الليالي" حتى "سُكر مُر"، فسنجدها كالتالي..


"سهر الليالي" كان فيلما مبهرا في المشاهدة الأولى، خاصة وسط الظرف السينمائي المضطرب الذي ظهر خلاله. لكن مع إعادة مشاهدته يفقد الفيلم قليلاً من إبهاره بسبب إحكام بناءه الدرامي. كل شيء محسوب بدقة شديدة، والخطوط تسير بسيمترية في التمهيد والتصعيد والذروة، بصورة تجعل السرد ـ وبعد التخلص من الإعجاب المبدئي ـ شكلانيا بدرجة كبيرة. أمرٌ كان في حد ذاته إنجازاً في ذروة سيادة الأفلام ذات البناء الهش والملفق، لكنه أصبح بمرور السنوات عيباً في فيلم مادته الخام الرئيسية هي المشاعر.

في "سُكر مُر" يتخلص هاني خليفة والمؤلف محمد عبد المعطي من شبهة الشكلانية، بانتهاج سرد يقوم بالأساس على التشظي، يفكك الزمن والخطوط الدرامية ومراحل تطور الشخصيات، ويمزجها بشكل حر أشبه بتداع الأفكار. لا يوجد هنا مسار درامي واضح، ولا يمكنك أن تتوقع ما سيحدث في المشهد المقبل قياسا على محتوى المشهد الحالي. بل تنتقل الأحداث من زمن إلى آخر ومن شكل علاقة بين الشخصيات إلى شكل كامل الاختلاف طبقا لما يريد الفيلم أن ينقله لك في اللحظة الحالية من مشاعر ومعلومات.

الخيار لا يضمن فقط عنصر المفاجأة بالنسبة لتوال الأفكار وكشف خلفيات الأبطال، ولكنه يزكي وجهة النظر الساخرة مما يحدث في الحياة. فنفس الحكايات والعلاقات لو رويت بشكل خطي تقليدي قد تسير في اتجاه ميلودرامي، لكنها لا تنحو هنا نحو الميلودراما ولو للحظة بسبب الاحتفاظ بذلك التشويق المتعلق بفهم ما كانت عليه الشخصيات وتوقع ما ستصير إليه في المستقبل.


أفلام العلاقات برجوازية بطبيعتها. كيف لا وهي تطرح مشكلات من نوعية السعادة مع الحبيب والرضا عن الحياة العاطفية والاكتفاء بالطرف الآخر، وغيرها من الهواجس التي تعد مجرد رفاهيات سطحية في نظر أنصار المدرسة الطبيعية، التي تحرك الشخصيات فيها حاجات أولية فيزيائية، كالبحث عن المأوى والمأكل وحماية النفس من الأخطار المادية. لكن مالا يريد أنصار هذه المدرسة الاعتراف به هو أن هناك شريحة عريضة من البشر تمثل هذه الأشياء بالفعل أزمات حياتهم، وتحدد علاقتهم بالعالم وشعورهم تجاه كل شيء. صحيح أنه لا يمكن التنظير حول الأعمال التي تدور في فلك العلاقات العاطفية، ومنحها صكوك إنسانية واهتمام بالفقير والمحتاج وكل العناوين الضخمة، لكنها تظل نوعا فنيا مهما ومؤثرا وواجب التواجد.

عموما، وبخلاف هذا الجدل الذي لا ينتهي، فقد أخذ هاني خليفة في "سُكر مُر" خطوة أبعد في تفكيك العلاقات العاطفية، وبلوّرة جزء من تأثير العنصر المادي على شكلها؛ فحتى لو كانت العلاقة برجوازية تماما وطرفاها آمنين ماديا، فإن تواجد المال كعنصر مؤثر على العلاقة يظل متواجداً في معظم الحالات التي نشاهدها على أرض الواقع. التأثير الذي كان حاضراً في "سهر الليالي" بصورة محدودة مقتصرة على العلاقة بين شخصيتي حنان ترك وأحمد حلمي، لكنه يُطرح في الفيلم الجديد بصورة أوسع.

علاقة مشابهة في رعاية الأنثى الأعلى دخلا لحبيبها ماديا في العلاقة بين شيري (ساره شاهين) وعلي (كريم فهمي). رعاية تتم من الطرف الأثرى بدافع الحب، لكنها تظل داخله كسلاح يشهره وقت الخلاف لإهانة الآخر. بينما الطرف المستفيد ماديا وإن ـ خاصة لو كان الرجل ـ لابد وأن يشكل هذا الوضع الغير معتاد اجتماعيا شرخا في رؤيته لنفسه وللآخر، يتسبب في حالة شخصية مثل علي في تصرفات كالتي يُقدم عليها في الفيلم.

أزمة مادية أخرى مقاربة في الدوافع ولكن بطريقة عكسية تدور بين سليم (أحمد الفيشاوي) وعالية (أيتن أمين)، وإن كانت دوافع سليم الباحث عن حياة مستقرة وزوجة أكثر "احتراما" ممن عرفهم مسبقاً، مختلفة عن شيري التي لاذت بعلي بحثا عن الأمان العاطفي الذي افتقدته في علاقات سابقة. لكن اختلاف الدوافع لا يمنع الحالتين من التحول لوضع مقارب: طرف يقدم خدمات يجزم أنها بدافع الحب بينما يعلم داخله أن أحد وجوهها هو الرشوة، والآخر يقبلها أيضا باعتبارها علامة للغرام، بينما تتردد في ذهنه قناعات من نوعية "أنا أحصل على امتيازات أكبر بكثير ممن لهم نفس ظروفي، وذلك لأني مميز استحق معاملة خاصة، أو لأني أقوم بتنازل لا يقبله غيري يجب أن أؤجر عليه".

بعد مادي آخر يظهر لدى مريم (ناهد السباعي)، الفتاة المسيحية التي ترفض الاستجابة لرغبة والدتها في الارتباط بشاب آمن ماديا، وتصر على حبيبها (نبيل) صاحب الموارد المحدودة. حتى هنا العلاقة كليشيه آن من نصف الأفلام الرومانسية المصرية. لكن ما يعقده ويجعله مختلفا هو أن مريم في حقيقة الأمر ليست واثقة تمام الثقة في حبها لنبيل. أي أنها ترفض آمانا ماديا من أجل أمان عاطفي هي نفسها لا تؤمن بوجوده!

عناصر مادية كهذه تجعل الصراعات أكثر تأثيرا وارتباطا بحياة المشاهد اليومية التي يقابل فيها عشرات القصص المماثلة، وتشكل فهماً أعمق لكون الارتباط الرسمي ـ الزواج ـ هو قرار اقتصادي اجتماعي بقدر لا يقل إطلاقا عن كونه قراراً عاطفياً.


أكثر مشهد تناولته الأقلام بالتحليل في "سهر الليالي" كان مشهد النهاية. ذلك المشهد بالغ الذكاء الذي يروي بالصورة فقط حقيقة سعيدة ومفزعة في آن واحد، لا أحد يتغير والطبع يغلب التطبع، لكننا نتوائم مع هذه الطباع كي تستمر الحياة. استنتاج نهائي يميل للتفاؤل أكثر بكثير من التشاؤم، لكنه يغفل لأن هذه الطباع كانت ولا تزال هي أسباب الخلاف، وأنها ستتكرر مجددا وستؤدي لشروخ أعمق يصعب التوائم أو التواطؤ معها.

فيلم "سُكر مُر" يقوم بمد هذه الخطوط على استقامتها، ويختار طرح وجهة النظر السوداوية ـ والأكثر واقعية ـ للأمر. الإنسان في حالة بحث دائم عن السعادة والأمان العاطفي، يبذل من أجل ذلك بعض التضحيات ويغير من طباعه ونمط حياته، لكنه يظل هو نفسه مهما حاول اختلاق هوية جديدة، وهو ما يوصل العلاقات في أغلب الأمور لنقطة لا عودة، تحدث عندما يتعامل الطرفين مع علاقتهما بأنها قد صارت أمرا مسلما بوجوده، لا يحتاج للاستمرار في التضحية والتظاهر من أجل المحافظة عليه، وهي اللحظة التي تبدأ فيها مرارة سُكّر الحب ويتمزق فيها ما كانا يظنّاه أبديا.

ولعل علاقة مروان (نبيل عيسى) بنازلي (أمينة خليل) هي الصورة الأكثر إيلاما لهذا الاستنتاج الكلي. لأنها على المستوى الظاهري هي أقل علاقة احتاجت لتنازلات من قبل الطرفين كي تبدأ، وهو ما جعلها في بدايتها مثالية ومثارا للحسد. لكنك تدرك في لحظة أن التنازل لا يقتصر على الماديات ونمط الحياة، ولكن يمتد لأدق التفاصيل النفسية مثل الصورة التي أرغب في تصديرها عن نفسي للآخرين. وهي رؤية سوداوية حقا لن يدركها فقط من يعيش علاقة عاطفية مضطربة ـ وهو الطبيعي ـ ولكن حتى من يعيش في اللحظة الآنية علاقة سعيدة، سيجد في الفيلم تماس مع الخوف الفطري من زوال السعادة.


"سُكر مُر" هو خطوة للأمام بكل تأكيد. خطوة في مسار صانع أفلام اختار أن يكون مشروعه هو تفكيك العلاقات العاطفية بأشكالها، وهو أمر خليق بأن يكون هدفا لمسيرة مخرج كبير، يتمكن في كل مرة من السيطرة على أدوات صنعته، وعلى رأسها الممثلون الذين يظهرون عادة مع هاني خليفة كما لم تراهم من قبل، وأخص بالذكر ساره شاهين ونبيل عيسى اللذان كانا بالفعل مفاجأة الفيلم. ليصنع في النهاية عملا يشبه صاحبه، يحمل سمات الاختلاف والتطور عن عمله الأول، لكنه أيضا يضم رابطاً عضوياً يذكرنا بما قاله المخرج الفرنسي كلود سوتيه يوما عن فكرة المشروع السينمائي، حين قال..

"عند مشاهدة أفلامك مرة أخرى، ستكتشف كل الأشياء المرتبطة معاً، كل الأشياء التي تضعها بانتظام دون أن تعيها. شخصياً، مع هذا الفهم بأثر رجعي، استطيع تفهم حماسي الزائد تجاه الشخصيات الرجالية بحدة أكثر من الشخصيات النسائية، ربما يعود هذا لطفولتي، وحقيقة أني قد نشأت في بيت الأب فيه غائب. تتكرر أنواع من هذا داخل كل فيلم، سواء عن رغبة مني أو عن غير رغبة. تتغير الأماكن والشخصيات، لكن التيمات البارزة تتكرر. وفي الواقع، وبرغم كل الطاقة التي أودعتها في كل مشروع جديد لجعله مختلفا، وجدت أني في النهاية قد صنعت نفس الفيلم طول حياتي".


سُكر مُر من إنتاج شركة مانز بيكتشرز لمؤسسها د. محمد منظور، ومن إخراج هاني خليفة وتأليف الكاتب محمد عبد المعطي، في بطولة جماعية يشارك بها النجوم أحمد الفيشاوي، هيثم أحمد زكي، أيتن عامر، شيري عادل، ناهد السباعي، أمينة خليل، نبيل عيسى، كريم فهمي، عمر السعيد وسارة شاهين، ويتكون فريق عمل الفيلم من مدير التصوير أحمد عبد العزيز، المونتير أحمد حافظ، المؤلف الموسيقي مصطفى الحلواني، المشرف العام على الإنتاج أيمن نجيب، المنتج الفني وليد النجار، مهندس الديكور يحيى علام والستايلست خالد عزام، وتقوم بتوزيع الفيلم في دور العرض شركة دولار فيلم.

تعرف على مواعيد وأماكن عرض فيلم "سكر مر" عبر دليل السينما المقدم من FilFan.com

Please enable JavaScript to view the comments powered by Disqus. comments powered by

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى