الارشيف / ثقافة و فن / في الفن

"يا طير الطاير": محمد عساف على طريقة أبو أسعد.. إلا قليلًا

  • 1/2
  • 2/2

بالنسبة لمُنظمي مهرجان أجيال السينمائي، الذي اختتمت فعاليات دورته الثالثة، السبت ٥ ديسمبر في الدوحة، لا يوجد أدنى شك في أن اختيار فيلم "يا طير الطاير" ليكون فيلم افتتاح المهرجان وحدثه الأبرز اختيارًا منطقيًا ناجحًا.

الفيلم من جهة هو أحدث أفلام المخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد بعد عمليه المرشحين للأوسكار "الجنة الآن" و"عُمر"، ومن جهة أخرى الفيلم يروي سيرة نجم فائق الشعبية هو محمد عساف الفائز ببرنامج "آراب أيدول".

السببان السابقان كافيان لجعل الفيلم جاذبًا للأضواء والاهتمام، مع إضافة تفاصيل مثل كون عرض أجيال هو الأول في الشرق الأوسط بعد مشاركة الفيلم بنجاح في مهرجاني تورنتو ولندن، ومثل تنظيم مؤسسة الدوحة للأفلام حفلاً غنائياً لعساف على هامش المهرجان ساعد في زيادة الأقبال، وأخيراً حقيقة كون الفيلم مدعوم من قبل المؤسسة التي يرتفع سنوياً عدد الأفلام العربية والعالمية التي تقوم بدعمها.

لا غبار إذن على اختيار الفيلم لافتتاح المهرجان، بل أنه على الصعيد التنظيمي اختيار ممتاز على كافة المستويات، أما على الصعيد الفني، وعندما يأتي الفيلم من أحد أهم صناع السينما العرب المعاصرين، فإن الحساب النقدي قد لا يعطي الفيلم نفس العلامة الكاملة، وهو ما سنحاول رصده في المقال، قبل أيام من عرض الفيلم مرة أخرى ضمن فعاليات مهرجان دبي السينمائي.


قبل كل شيء يجب التأكيد عن أن التقليدية لم تكن أبداً شيئاً يُعاب على سينما هاني أبو أسعد، المخرج المخلص عموماً لتراث السينما الكلاسيكية بأبطالها الواضحين ودراماها المتصاعدة، فإذا عقدنا مقارنة بين أسلوبي أهم مخرجين فلسطينيين معاصرين ـ أبي أسعد وإيليا سليمان ـ سنجد أن أفلام أبي أسعد لا تمتلك نفس قدر التجريب والحداثة في أعمال سليمان، وتبدو بتحليل عناصرها الرئيسية قريبة من أي فيلم مصري كلاسيكي، بل أن هاني نفسه لا يترفع عن إعلان تأثره بالسينما المصرية، وأوضح أكثر من مرة أن فيلم "الكرنك" لعلي بدرخان كان مصدراً رئيسياً ألهمه لصناعة فيلمه الرائع "عُمر".

ما اعتاد أبو أسعد القيام به هو الانطلاق من هذه العناصر التقليدية لصياغة عمل طازج، مفعم بالمشاعر والأفكار الزخمة، التي تتجاوز بساطة القالب السردي والبصري، وفيلم "عُمر" يتجاوز مصدر إلهامه المُعلن فنياً وفكرياً، بل ويتجاوز معظم تراث سينما القضية الفلسطينية، في إدراكه لتعقد الموقف وتمكنه من عكس هذا داخل الحكاية وتطور مسار الشخصيات، حتى يصل الحال ببطل الفيلم أن يشك في نفسه، ويعجز ـ ونحن معه ـ في تقييم إذا ما كان مخلصاً أم خائناً!

"يا طير الطاير" ينطلق من نفس مساحة التقليدية، لا يحاول رسم أي شخصيات غريبة أو استخدام أسلوب سردي أو بصري صارخ، فقط الحكي المُحكم بالصورة، بإيقاع سريع وديناميكي، لمحاولة الأطفال الأربعة من غزة أن يكوّنوا فرقتهم الموسيقية، معتمدين بالأساس على موهبة صديقهم محمد صاحب الصوت الرائع، وعلى حماس شقيقته نور، مُحرّك المجموعة الجريئة والمؤمنة في موهبة محمد أكثر من إيمانه هو بنفسه.

نجاح المخرج في الحكي ينسيك سريعًا أن هذه هي حكاية محمد عساف الذي تعرفه، فيسهل الاندماج مع المواقف التي يتعرض لها الأطفال الأربعة، خاصة مع الأداء التمثيلي الجيد من الطفلين اللذين لعبا دور محمد ونور. لكن هذا الاندماج يتم عرقلته في بعض اللحظات التي يصدر فيها منهم بعض العبارات الرنانة الأقرب للشعارات، عن الطموح ومطاردة الحلم والرغبة في تغيير العالم.

هذه العبارات تقوم هنا بدور سلبي مزدوج، فهي أولاً تذكر المشاهد تقائياً بأنه يشاهد حكاية محمد عساف، وأنه لا مجال للشعور بالقلق على الطفل الذي نراه لأنه ببساطة سيحقق ما تقوله هذه الشعارات، ويكسر كل الحواجز ليصير نجماً محبوباً. أمر يعرفه الجميع سلفاً بالطبع، لكن داخل تجربة المشاهدة والتماهي مع الحكاية (وهو أساس السرد الكلاسيكي الذي ينتهجه المخرج) يصبح كسراً غير محمود التأثير للإيهام.

السلبية الثانية للعبارات هو إفقاد سينما هاني أبو أسعد لما ميّزها دائماً، وهو حس الحيرة وتعقد الموقف الإنساني. هذا عمل خال من أي أطياف للشك، جميعنا نؤمن بموهبة البطل، وكل من حوله تقريباً لديهم نفس الموقف، وكلما اندمجنا في الحكاية وتغاضينا عن المعرفة المسبقة، تأتي عبارة تذكرنا بوضوح الحال، وبأن أعظم فكرة يمكن أن نخرج بها مما نراه هي أن هناك شاب غزّاوي تحدى ظروفه وحقق حلمه، بينما الحكاية في جوهرها ـ بدليل اهتمام أبي أسعد بها ـ تحتمل ما هو أكثر عمقاً من ذلك.


رغم الملاحظة السابقة يبقى الجزء الذي تدور أحداثه في غزة جزءً قوياً متماسكاً، فحتى لو تعاملنا معه باعتباره قصة صعود ونجاح اعتيادية، فهي تظل قصة جذابة محكمة التنفيذ، تتمتع بلمحات ذكية يضعها المخرج هنا وهناك لإثراء عالمه الفيلمي، مثل تغير شكل الشوارع وألوانها بين طفولة عساف وشبابه، ومشاهدته في الشارع من حين لآخر لأفراد فقدوا أطرافهم (يشاهد في البداية رجل قطعت ساقه ثم آخر ـ أو ربما يكون هو نفسه ـ وقد قُطعت ساقيه)، كتعبير بصري عن ضيق العالم تدريجياً في نفس البطل الراغب في الفرار.

الموهبة تظهر أيضاً في التعامل الدرامي مع حدث إصابة شقيقة البطل نور بمرض مميت، وهو حدث ميلودرامي بطبيعته كان من الممكن أن يتحول على يدي أي مخرج آخر إلى مساحة للبكائيات، لكن أبو أسعد يحوله إلى تتابعات مؤثرة، تجتمع فيها الابتسامة وخفة الظل مع إدراك ثقل الحدث وتأثيره الدرامي على الشخصيات. مساحة ثالثة من الجودة بطلها السيناريو هذه المرة (كتبه أبو أسعد بمشاركة سامح زعبي)، هي تتابعات خروج محمد من غزة بفيزا مزورة، رغم اعتراض صديقه القديم الذي صار ضابطاً متشدداً دينياً، عبر حيلة ذكية تحمل سخرية مبطنة من الثقافة العامة للمجتمعات العربية.

منذ هذه اللحظة ينقلب الفيلم رأساً على عقب، ليدخل مرحلة يفترض أن تكون ذروة أي عمل من نفس النوع: البطل بعد تجاوز كل العوائق يواجه الجمهور أخيراً ليثبت موهبته. هاني أبو أسعد للأسف وقع في فخ المواد الأرشيفية المستمدة من البرنامج الذي فاز فيه عساف فعلياً (والذي ساهمت الشركة المنتجة له في تمويل الفيلم بما يضع بالتأكيد بعض القيود ولو الداخلية على صانع العمل).

المخرج أراد الاستفادة من المواد المصوّرة سلفاً، مع مزجها مع لقطات لممثله وهو يغني وليس الشخصية الحقيقية، وانخرط كثيراً في هذه الحيلة التي لم تنفذ للأسف بشكل جيد، فظل من الواضح في اللقطات الكبيرة لوجه البطل أنها ليست في نفس لحظة باقي اللقطات، مع تزامن هذا مع ركود في الدراما، سببه الرئيسي تلك القناعة التي يستشفها الجميع أن هناك اتفاق ضمني بين المخرج والمشاهد أن كلانا يعرف ما حدث في البرنامج فلا داعٍ لإعادته. لكن الحقيقة أنه لا يصح عمل فيلم موجه للعامة بينما يوجه فصله الأخيرة لمن شاهدوا برنامجاً بعينه، وكاتب هذه السطور مثلاً لم يشاهد البرنامج ووجد صعوبة في التواصل مع الفصل الأخير من الفيلم.

التصور الأقرب للمنطق هو أن هاني أبو أسعد تعامل مع حكايته باعتبارها حكاية طفولة عساف وخروجه من عالم غزة الضيق، وأن كل ما حدث بمجرد وصوله لمصر هو تتابعات نهاية ليست جوهرية في بناء فيلمه. هذا تصور صحيح بحسابات الجودة المتباينة بين جزئي الفيلم، لكن لا يمكن اعتباره دفاعاً في ظل امتداد الفصل الأخير لحوالي عشرين دقيقة كاملة، لم تأت للأسف بنفس قيمة ما سبقها من زمن الفيلم.


"يا طير الطاير" تجربة مغامرة، كان يمكن اعتبارها مجرد دعاية لنجم لولا إقدام مخرج بحجم هاني أبو أسعد عليها. المخرج حاول أن يضع بصمته الخاصة وأسلوبه على الحكاية، فنجح في معظم أوقات الفيلم عدا بعض المباشرة، لكن الجزء الأخير من الفيلم لم يكن بنفس النجاح. إجمالاً، لو صنع مخرج آخر نفس الفيلم يمكن أن نعتبره عملاً ناجحاً، لكن أن يأت من قبل صانع "الجنة الآن" و"عُمر"، فمن الصعب أن نقول أنه قد بلغ نفس درجة النجاح في فيلمه الجديد.


شاهد- الإعلان الدعائي لفيلم "يا طير الطاير"
" frameborder="0">

Please enable JavaScript to view the comments powered by Disqus. comments powered by

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى