"اشتباك" تم اختياره منذ أشهر لافتتاح عروض قسم "نظرة ما" في دورة مهرجان "كان" الأخيرة، بكل ما أثاره هذا من جدل سياسي ساخن وقتها، ازداد لهيبه مؤخرا مع بدء عرض الفيلم في مصر، وما تلى ذلك من اتهامات من مخرجه للسلطات بمحاولة عرقلة الفيلم دعائيا وتسويقيا، بالإضافة لحملات دعائية على الـ Facebook اعتبرها الكثيرون استفزازية، واعتذر صناع الفيلم أنفسهم عن بعضها.
لدينا فيلم حرص صُناعه منذ البداية على نفي صفة الانحياز السياسي فيه، وأوافقهم الرأي أن الفيلم سينمائيا خالي من هذه الصفة، لكن انتهى بهم الحال رغم ذلك بتلقي اتهامات من الكل بالانحياز لطرف ما (السلطة الحالية - التيارات المعارضة الثائرة ضدها وأولها تنظيم الإخوان). والطريف أن التهمة في الحالتين تتم غالبا بدون مشاهدة الفيلم!
هذه نتيجة شبة حتمية على أي حال، ليس لأن دعاية صناع الفيلم - على مواقع التواصل الاجتماعي على الأقل - تضمنت فعلا استدعاء وإلحاح واضح على جمهور المعارضة لمشاهدته، بدرجة أغضبت شريحة من هذا الجمهور المستهدف نفسه، لكن لأن الفيلم الذي تدور أحداثه عام 2013 في الأيام التي أعقبت إزاحة الرئيس السابق محمد مرسي، وما نتج عن ذلك من صراعات وانقسامات، يُعرض الآن في أيام لا يزال بها نفس هذا الاستقطاب ساريا.
شاهد إعلان الفيلم
من الصعب أن تصنع فيلما مرتبطا بحدث سياسي ساخن وتعرضه في وقت لا يزال فيه هذا الحدث موضع جدل وخلاف، ثم تتوقع شيء مختلف. مهما كانت أسس التوازن والحياد قائمة، من الممكن بالتأكيد لأي متفرج تصيد جملة أو مشهد ما، لتفسير نوايا ورسالة صناع الفيلم بالشكل الذي يطابق شكوكه أو رغباته، وهى مهمة تزداد سهولة بالطبع للمتخصص.
الجدل الحالي بالتأكيد توقعه الكل بما فيهم صناع الفيلم، لكن "اشتباك" يبتعد عن الانحياز فعلا، ولا أعني بالجملة إدانة فكرة الانحياز في عمل سينمائي في حد ذاتها، لأن السينما - والفن عامة - وسيط مقبول فيه طرح الرأي والاختيار، ولا يعيب صاحب العمل الفني في هذه الحالة، إلا ضعف التنفيذ الفني إذا وُجد في عمله.
"اشتباك" عمل مباشر لا يميل إلى التعقيد أو الألغاز أو الإسقاطات المُشفرة. الفيلم يبدأ بعربة ترحيلات في فترة الأحداث الساخنة والفوضوية بعد 30 يونيو 2013، ثم تتواصل الأحداث تدريجيا، لنشاهد العربة وهى تُعبأ ببشر من كل نوع تقريبا.
الثوري الباحث عن نموذج ديمقراطي غربي.. الإخواني المنتمي للتنظيم.. الإسلامي المساند للإخوان.. المساند لقرار عزل مرسي.. المُعترض على نفس القرار.. المتواجد بسبب صدفة.. الذكر.. الأنثى.. الثري.. الفقير.. العجوز.. الطفل. كل النماذج موجودة تقريبا. وبالطبع ما دمنا نتحدث في النهاية عن عربة ترحيلات، فلدينا بالإضافة لكل ما سبق، طاقم أمني مصاحب للعربة يضم ضباط وعساكر.
الرحلة البائسة وسط هذه الظروف الفوضوية، ستشهد صراعات وستشهد أيضا لحظات تقارب إنساني، يتكاتف فيها الجميع لحل معضلة ما للكل أو لفرد واحد. ما يميز النص أن الفيلم أفلت أغلب الوقت، من العيب الأسوأ الذي توقعته فيه على ضوء الفكرة، وأعني هنا تطويع كل شخصية، لتصبح بوق مزعج يستخدمه الفيلم بشكل مصطنع وسطحي، للتعبير طوال الوقت عن فريق أو انتماء سياسي مصري.
تجاوز هذا العيب معظم الوقت إنجاز يُحسب لفريق الفيلم، خصوصا إذا قارناه باللمسات السياسية الخطابية المباشرة الفجة المعتادة في سجل السينما المصرية. هذا فيلم يتحرك بمنطلق درامي إنساني يحترم الشخصيات، وليس فيلم زاعق ومنفر يتحرك من منطلق خطابي سياسي، تم تحميله قهرا على كتف شخصيات.
في بعض اللحظات المعدودة فقط يظهر هذا العيب، وفي مقاطع أخرى يختلق الفيلم مصادفات درامية غير منطقية دراميا نسبيا، مثل التواجد المكرر لعربة ترحيلات مجاورة للعربة الرئيسية، تحتوي على أصدقاء ومعارف لأبطالنا، أو حدوث شجار بين صديقين حميمين بسبب علاقات غرامية تم اكتشافها بالصدفة، ولم توظف حتى لاستفادة درامية تذكر.
طاقم التمثيل متفاوت المستوى لكن المتوسط العام جيد، ومن الواضح أن دياب لم يعامل النجوم باعتبارات خاصة في مساحة الدور، وخلق للشخصيات كلها مساحة اهتمام مقبولة، رغم إجمالي العدد الكبير (حوالي 20 شخصية). توجد أيضا لمسة إجادة لا بأس بها في خلق تفاصيل للهيئة والملابس مع بعضهم، بشكل لا يطابق فقط طباع وتاريخ الشخصية، لكن يُسهل أيضا التفرقة بينهم بصريا في المشاهد السريعة التقطيع.
وسط الجو الخانق العام للفيلم، اختار دياب بذكاء تلطيف الجو أحيانا بلمسات كوميدية، أو بلحظات تقارب، تشهد "الرغي" المصري التقليدي عن كرة القدم أو السينما والغناء وخلافه، ولولا الضعف التمثيلي في بعضها، وإصرار النص على استدعاء هذه اللحظات لاحقا، في مقطع حواري يُعظمها كما لو كانت كافية لإحداث تغيير كبير في وعى المجتمع، لظل تأثيرها أفضل وأكثر ثباتا ومصداقية. هذا الاستدعاء في الحقيقة أقرب ما يكون لإشادة من صناع الفيلم لأنفسهم داخل فيلمهم، وهو إجراء يصعب تبريره.
الفيلم باختصار يلعب على وتر (بشر مختلفون لكن مجبرون على التواجد سويا لظروف قهرية). وهو وتر لامسته السينما العالمية كثيرا، وظهر في أعمال مصرية قد يكون أفضلها فيلم صلاح أبو سيف "بين السما والأرض" الذي دارت أغلب أحداثه في مكان ضيق أيضا (مصعد عمارة). ولتوسيع الأفق للفكرة يجوز مثلا أن نذكر فيلم شريف عرفة "الإرهاب والكباب" كنموذج دارت أحداثه في مكان أوسع (مجمع التحرير).
المكان الضيق في "اشتباك" لا يسمح فقط باستدعاء وتبرير الصراعات دراميا، خصوصا مع مرارة الوضع، وحرارة الجو المرتبطة بمكان وزمان الأحداث، لكنه يحقق أيضا غرض إنتاجي واقتصادي ذكي، وهو توفير النفقات الإنتاجية.
هذه الحيلة قديمة واستخدمها هتشكوك مثلا عام 1944 في "قارب النجاة" Lifeboat ولا تزال موجودة في سلاسل تجارية هوليوودية، كان أشهرها مؤخرا المكعب Cube والمنشار Saw.
اختيارات دياب بصريا تنطلق كلها من التواجد المستديم داخل صندوق سيارة الترحيلات، ليشارك المتفرج الشخصيات نفس الإحساس الخانق. من أجل ذلك اختار وضع الكاميرا دائما بزوايا تطابق وجودها محبوسة في الداخل معهم، حتى عندما تراقب عدساتها ما يدور بالخارج. وفي بعض اللحظات تكتسب الحيلة فاعلية أعلى، عندما يشارك المتفرج الموجودين الإحساس بالعجز أمام مخاطر خارجية، يراقبها الكل من النوافذ.
النقطة السلبية بصريا قد تكون توظيفه المكثف لأضواء الليزر الأخضر. هذا الشكل تواجد فعلا وقت الأحداث الحقيقية، وامتزج بها في مشاهد عديدة شاهدناها على قنوات الأخبار، لكن الاستخدام المُفرط له خصوصا قرب نهاية الفيلم، حذف التأثير المراد لتدشين الإحساس بالفوضوية والرعب، وحول الليزر الأخضر لعنصر مصطنع ودخيل، ينتزع من الصورة حدتها ومصداقيتها.
شاهدت الفيلم بمعيارين للتوقعات. معيار ناقد ينتظر فيلم عظيم كما وصفته بعض الصحف العالمية، وقت عرضه في مهرجان "كان"، وطبقا لهذا المعيار فالفيلم (أقل بكثير من المنتظر). ومعيار ناقد يتوقع عيوب ثابتة في أي فيلم مصري ذو طابع أو وتر سياسي، وطبقا لهذا المعيار فالفيلم (أفضل بكثير مما توقعت).
في جميع الحالات "اشتباك" خطوة واسعة للأمام في مشوار محمد دياب كسيناريست ومخرج، مقارنة بفيلمه الأول 678 الذي دارت أحداثه عن التحرش الجنسي، وعمل تفادى فيه أهم عيب في فيلمه السابق، الذي جعل فيه للقضية الأولوية والهيمنة على حساب مصداقية الشخصيات والتفاصيل.
دراما متماسكة وشخصيات مرسومة بإتقان، في فيلم رغم بعض العيوب يحافظ على عنفوانه من البداية للنهاية، ولا يخلو من مجهود بصري. هل هو تحفة سينمائية عالمية؟ هذا وصف مبالغ فيه جدا، ويضر الفيلم أكثر مما يفيده، لكن "اشتباك" بالتأكيد من أفضل أفلام السينما المصرية مؤخرا، وعمل يعكس تطور واضح لمخرجه محمد دياب.